مقاربةٌ لمنهج التدريب على ‘صلاة يسوع’ عند القديّس صُفرونيوس سخاروف


 القديّس صُفرونيوس سخاروف

تعريب نادين جراد

 

في[1] نيّتي أنْ أُكرّس هذا الفصل لِعرض الجوانب الأكثر أهمّيّة من صلاةِ يسوع بإيجازٍ شديدٍ والآراء القويمة المتعلّقة بهذا التثقيف والتّنمية العظيمة لملَكات القلب الّتي عرفتُها في الجبل المقدّس. عامًا بعد عامٍ يُردِّد الرهبانُ الصلاةَ بشفاههم دون اختلاق أيّة محاولة لضمّ العقل إلى القلب. فإنّ اهتمامهم يَنصَبّ على أن تكون حياتُهم موافِقةً لوصايا المسيح. بحسب التقليد القديم، يتّحدُ العقلُ بالقلب بفعل النعمة الإلهيّة وذلك حين يواصِلُ الراهبُ عملَه النسكيَّ الفذّ في الطاعة والإمساك، وعندما يتحرّرُ العقلُ والقلبُ وجسدُ ‘الإنسان القديم’ بحدّ ذاته إلى حدٍّ وافٍ من هيمنة الخطيئة عليهم، وعندما يصيرُ الجسدُ مستحقًّا لأن يكون "هيكلاً للروح القدس" (رو ٦: ١١ -١٤). إلاّ أنّ المعلِّمين الأوائل والمعاصرين يُجيزون، في بعض الأحيان، الاستعانةَ بنهجٍ عَمَليّ لإنزال العقلِ إلى القلب. ولأجل بلوغ ذلك، يجلس الراهبُ أوّلاً في وَضعيّةٍ مناسبة، ورأسُه مُنحنٍ فوق صدره، متلفّظًا عند الشهيق بالكلمات ‘أيّها الربّ يسوع المسيح (يا ابن الله)’، ثمّ عند الزفير ‘ارحمني (أنا الخاطىء)’. بدايةً، يتبَعُ انتباهُ الراهب حركةَ تَنَفُّسِه عند الشهيق بالقرب من القسم الأعلى من القلب. بذلك يحفظ الراهبُ تركيزَه سريعًا دون تَشَتُّت، والعقلُ يقف جنبًا إلى جنبٍ مع القلب، أو أنّه يَلِجُ منضمًّا إليه. يُتيح هذا الأُسلوب للعقل، في نهاية المطاف، بأن يرى ما يَعتملُ في القلب اللحميّ لا القلبَ ذاته –أيّ الأحاسيسَ المتسلّلة إليه والتخيُّلات العقليّة الّتي تدنو من خارج. من جرّاء وفرة هذه الخبرة، يكتسب الراهبُ المقدرةَ على استشعاره لما في قلبه، وأن يستمرّ انتباهُه مُنصبًّا على القلبِ دون اللجوء إلى أيّة تقنيّةٍ نفس-جسدانيّة psychosomatic.

 

الصلاة الحقيقيّة وَليدة الإيمان والتوبة

قد يساعد هذا النهجُ المبتدئَ على أن يفهم في أيّ مكانٍ ينبغي أن يتمحور انتباهه الداخليّ أثناء الصلاة، وكقاعدةٍ تُطبَّق في كافّة الأوقات الأُخرى. إلّا أنّ الصلاةَ الحقيقيّة، بالرغم من ذلك، لا يُبلَغ إليها على هذا النحو. فالصلاةُ الحقيقيّة تأتي حصريًّا من خلال الإيمان والتوبة الّلذَين نَقبَل بهما أساسًا وحيدًا لها. إنّ خطرَ التقنيّات النفسيّة يكمن في أنّ عدد الّلذين يعطون أهمّيّةً كبرى لتقنيّةٍ تلوَ تقنيّةٍ هو ليس بقليل. وبُغيةَ تفادي انحرافٍ كهذا، لا بدَّ من أن يتَّبع المبتدىءُ ممارسةً أُخرى في الصلاة، قد تكون أكثرَ تأنّيًا إلّا أنّها أفضلُ وأوثقُ بما لا يُقاس من أجل ضبطِ الانتباه في اسم يسوع وفي كلمات الصلاة. بعدئذٍ، متى بلغَ انكسارُ القلب ندمًا على الخطايا مبلغًا ما، يُدفقُ الذهنُ تِلقائيًّا اهتمامَه على القلب.

 

الصيغة الكاملة للصلاة

تجري الصيغةُ الكاملةُ لصلاة يسوع على النحو التالي: ‘أيّها الربُّ يسوعُ المسيح، ابن الله، ارحمني أنا الخاطىء’؛ وهذه هي الصيغةُ المُحَدَّدةُ الّتي ينبغي اتّباعُها. في القسم الأوّل من الصلاة، نُعلِنُ إيماننا بالمسيح-الإله الّذي تجسّد لأجل خلاصنا. أمّا في القسم الثاني، فنعترفُ بطبيعتنا الساقطة، وبإثميّتنا وبفدائنا. إنّ اقتران الاعترافِ بالعقيدة مع التوبة يشملُ مضمونَ الصلاة بِكامِلِه.

 

مراحل نموّ الصلاة

من الممكن توثيقُ ترتيبٍ مُحدّدٍ في نموِّ هذه الصلاة. أوّلاً تكون الصلاةُ شفهيةً: نتلو الصلاةَ بِشِفاهنا بينما نحاول تركيزَ انتباهنا في اسم يسوع وفي كلمات الصلاة. ثانيًا لا نعود نحرّك شفاهَنا، بل نلفظ اسم يسوع المسيح وما يليه في عقولنا، ذهنيًّا. في المرحلة الثالثة، يتّحد العقلُ والقلبُ لِيَعمَلا معًا: فيتركّز انتباهُ العقل في القلب حيث تُتلى الصلاة. رابعًا، تنطلق الصلاةُ تِلقائيّةً. ويحصل هذا متى تثبّتت الصلاةُ في القلب، والعقلُ مُستَجمَعٌ فيه، فتتواصل الصلاة دون أدنى جهد. أخيرًا، تبدأ هذه الصلاةُ الممتلئةُ نعمة بالاتِّقاد كشعلةٍ عذبةٍ في داخلنا، كافتقادٍ من العلاءِ، فتُفرِّح القلبَ بِوَمضةٍ من الحبّ الإلهيّ وتُبهج العقلَ في التأمّل الروحيّ. قد تترافقُ هذه المرحلة الأخيرة بمعاينة النور الإلهيّ.

 

تقدُّم الصلاة رُوَيدًا رُوَيدًا

إنّ الإرتقاءَ التدريجيّ نحو الصلاة هو الأمر الأكثر أمانًا. يُنصح المبتدىء عادةً، عند مباشرته بالجهاد، بالانطلاق من المرحلة الأولى، بالصلاة الشفَهيّة، إلى أن يستوعبها الجسدُ واللسانُ والدماغ والقلبُ معًا. ويتفاوت الوقتُ لِبُلوغ ذلك. فبمقدار صِدق التوبة، تغدو الطريقُ أقصر. قد يرتبط التدريبُ على الصلاة الذهنيّة بالنمط الهدوئيّ إلى حينٍ –بمعنى آخر قد يتّبعُ الإيقاعَ، أو عَدَمَهُ، في لفظ كلمات الصلاة كما وردَ أعلاه، فيستنشقُ في القسم الأوّل من الصلاة ويَزفرُ في القسم الأخير. ذلك يكون مفيدًا حقًّا إنْ لم يغضّ الإنسانُ طرفه عن حقيقة أنَّ كلَّ استدعاءٍ لاسم المسيح لا بدَّ من أن يرتبط أساسًا بالمسيح نفسه ارتباطًا وثيقًا. لا ينبغي أن نفصلَ اسمَ يسوع عن ذات الله لئلّا نُنزل من رتبة الصلاة إلى منزلة تَمرسٍ تِقَنيّ، وبالتالي نخالِف الوصيّة القائلة: "لا تَنطِق باسم الربِّ إلهك باطلاً" (خر ٢٠: ٧؛ تث ٥: ١١).

 

اقتناء انتباه العقل

عندما يَتثبّت انتباهُ العقل في القلب، حينئذٍ يمكنُ السيطرة على ما يَعتملُ في القلب، والحربُ ضدَّ الأهواء تتّخذ طابعًا عَقلانيًّا. فالعدوّ قد رُصِد وسيتبدّد بقوّةِ اسم المسيح. ومن جرّاء هذا العمل النُّسكي الفذّ يصير القلبُ مُرهَف الإحساس جدًّا، وذا تمييزٍ كبير، ما يؤول به، متى رَفَع الصلاةَ من أجل أحدٍ ما، إلى أن يعرف على الأَثَر حالةَ من قد صلّى من أجله. وهكذا تأخذ الصلاة بالانتقال مِن صلاةٍ عقليّة إلى صلاةِ الذهن والقلب، والّتي قد تَتبعُها عطيّة الصلاةِ الصادرة تلقائيًّا.

 

لا تتسرّع في الصلاة

إنّنا نسعى للوقوفَ أمام الربّ بكلّ كياننا. فالدعاءُ باسم الله المخلّص، متلفّظين به بمخافةِ الله، ومصحوبًا بجهادٍ متواصل للعيش بحسب الوصايا، يقودُنا رويدًا رويدًا إلى تَضَافرٍ مبارَك لقوانا كلّها. ينبغي أن لا نسعى أبدًا إلى الاسراع في جهادنا النسكيّ. كما أنّه من الضروريّ أن نطرح عنّا كلّ فكرةٍ تحُثُّنا على البلوغ إلى الذروة في أقلّ وقتٍ ممكن. فالله لا يُرغِمُنا على شيءٍ، كما أنّنا لا نستطيع فرضَ أيّ شيءٍ عليه على الإطلاق. إنّ النتائجَ المُكتَسَبة بالوسائل المصطَنَعة وغير الطبيعيّة لا تدوم طويلاً، والأهَمّ أنّها لا تُوحِّد روحَنا بروح الإله الحيّ.

 

طويلةٌ هي الدرب

في ظلّ الجوّ السائد على العالم اليوم، تتطلّب الصلاةُ شجاعةً بشريّة فائقة، لأنّ جُملة القوى الطبيعيّة بكاملها تقف معترضةً لها. فتَمَسُّك الإنسان بالصلاة دونما تَشَتُّتٍ يُلوِّح بالنصر في كلّ صعيدٍ من أصعِدة الحياة. طويلةٌ هي الدرب ومليئةٌ بالأشواك، إلّا أنّه يأتي وقتٌ يخترِقُ فيه شعاعٌ سماويٌّ الظلمةَ الداكنة ليُحدِثَ انفراجًا، مِن خلاله يتجلّى مصدرُ النورِ الإلهيّ اللامُتَناهي. تتّخذُ صلاةُ يسوع بُعدًا يتخطّى الكون. يؤكّدُ القدّيس يوحنّا اللاهوتيّ أنّ تألُّهَنا سوف يبلغ مبلغًا وافرًا في الدهر العتيد، فيقول: "لأنّنا سنراهُ كما هو. وكلُّ مَن عندَه هذَا الرجاءُ بِه يُطهّرُ نفسَه كما هو طاهرٌ... كلُّ مَن يَثبتُ فيه لا يُخطئ. كلُّ مَن يُخطئ لم يُبصِرهُ ولا عَرَفَهُ" (١ يو ٣ : ٢، ٣، ٦). من أجل أنْ نلقَى مسامحةَ خطايانا باسم المسيح، والموعدَ الّذي وَعَدَنا به الآب، ينبغي علينا أن نجاهدَ في إطالة الدعاء باسم المسيح "إلى أنْ نُلبَس قُوّةً مِن الأَعَالِي" (لو ٢٤ : ٤٩). إنّي إذ أحذّركم من الانجرار إلى ممارساتٍ مُصطنعة كالتأمّل التجاوُزيّ، أُكرّر الرسالة القديمة العهد الّتي وجّهَتها الكنيسة كما عبّر عنها القدّيس بولس: "روِّض نفسكَ لِلتقوَى. لأنّ الرياضَة الجسَديّة نافعةٌ لِقَلِيل ولكنَّ التقوَى نافعةٌ لكلِّ شيءٍ إِذ لَهَا مَوعدُ الحياةِ الحاضرة والعَتيدة. صادِقةٌ هي الكلمةُ ومُستَحِقّةٌ كلَّ قُبول. لأنّنا لِهذَا نتعبُ ونُعَيّرُ لأنّنا قد ألقَينا رجاءنا على اللهِ الحيّ الّذي هو مُخلّصُ جميعِ الناس" (١ تيم ٤: ٧- ١٠).

 

الصلاة ليست كالتأمُّل التّجاوُزيّ

يتطلّبُ نهجُ الآباء إيمانًا راسخًا وتجلُّدًا طويلَ الأمد، في حين أنّ مُعاصِرينا يبتغون الحصول على كلّ موهبةٍ روحيّة، بما في ذلك معاينة الإله المُطلَق معاينةً مباشرة، وذلك عَنوةً وبسرعة، وكثيرًا ما يُوازون بين صلاة اسم يسوع واليوغا أو التأمُّل التجاوزيّ وما شابَه. ينبغي لي أن أشدِّد على الخطر النّاجِم عن تلك الضلالات –أيّ خطر اعتبار الصلاة كإحدى أبسطِ وأسهلِ الوسائل ‘التِقنيّة’ الّتي تقودُ إلى اتّحادٍ مباشرٍ مع الله. من اللازم أن نفصلَ بشكلٍ كلّيّ بين صلاة يسوع وسائر النظريّات النُّسكيّة الأُخرى. يخدعُ نفسَه مَن يسعى إلى تجريد عقله مِن كلّ ما هو زائلٌ ونِسبيّ ليعبُرَ عَتَبةً لامنظورة، وليعرف أصلَه الأزَليّ ومماثلتَه لمصدر كلّ الخليقة؛ وليعودَ ويندمج بالمطلَق الّذي لا اسم له ويتخطّى الشخصانيّة. لقد مَكّنت تمارينُ كهذه الكثيرين من الارتفاع إلى تأمّلٍ للوُجود يتخطّى العقلانيّة؛ وإلى اختبار نوعٍ من الهَلَع الباطنيّ؛ وأن يعرفوا حالة صمتِ العقل، متى تجاوَزَ العقلُ حدود الزمان والمكان. في حالاتٍ كهذه قد يشعرُ المرء بالطمأنينةِ من جَرّاءِ انقطاعه عن أحداث العالم المنظور المتبدّلة باستمرار؛ حتّى إنّه قد يختبرُ بعضًا من السَّرمديّة. إلّا أنّ إلهَ الحقّ، الإلهَ الحيَّ، ليس موجودًا في كلّ ذلك. فجمالُ الإنسان الذاتيّ، المخلوق على صورة الله، هو ما ينبغي التأمّلُ فيه واعتباره كَأُلوهة، حيث يواصِلُ الإنسانُ تأمُّلَه ضمن حدود بشريّته المخلوقة. وهذه مسألةٌ غاية في الأهمّيّة. تَكمُن الإشكاليّة في حقيقة أنّ الإنسانَ، لشدّةِ تَوقِه إلى الحياة الأبديّة، يرى سرابًا فيُسيءُ تقديرَه مُعتبرًا إيّاه واحةَ مَلاذٍ حقيقيّة. فهذا الشكل من النُسك يقودُ، في آخر المطاف، إلى التأكيد على وجود الأساس الإلهيّ في الطبيعة البشريّة ذاتها. بعدئذٍ، يُقادُ الإنسانُ نحو فكرةِ تأليه الذات –عِلّة السقطة الأولى. مَنْ غشّى عَينيه وَهْمُ العَظَمةِ الّتي يتأملُّها قد خَطا في الواقع نحو هلاكِ نفسه. لقد نَبَذ انكشافَ الإله الشخصانيّ. فهو يجِدُ في مبدأ الشخص-الأُقنوم مبدأً محدودًا، وغير جديرٍ بمن هو المطلَق. إنّه يحاولُ أنْ يجرّد نفسه من هكذا محدوديّات وأن يعودَ إلى الحالة الّتي يظنّ أنّه كان عليها مِن قَبلِ مجيئه إلى هذا العالم. فما هذا التوجّه نحو أعماقِ كيانه إلّا انجذابٌ نحو حالةِ العَدَم الّتي منها دُعينا بحسب مشيئةِ الخالق.

 

معرفة الإله الشخصانيّ

لقد كشفَ لنا الخالقُ الحقيقيّ ذاتَه كشخصٍ كامل. فَحياتُنا المسيحيّة بكاملها ترتكِزُ على معرفةِ الله الّذي هو البداية والنهاية، الّذي اسمه "أنا هو". لا بدّ أن تكون صلاتُنا صلاةً شخصيّة على الدوام، نتوجّه فيها إلى الله وجهًا لوجه. لقد خلَقَنا الله لنشتركَ معه في أُلوهيّته دون إفسادٍ لشخصنا الذاتيّ. فبِصورةِ الخلود هذه قد وعَدَنا المسيح. كما يقولُ القدّيس بولس: "إِذ لسنا نُريد أنْ نخلَعها بل أنْ نَلبسَ فوقها لكي يُبتَلَعَ المائِتُ منَ الحياة". لأجل هذا خلَقَنا اللهُ و"أَعطانا أيضًا عربونَ الروح" (٢ كور ٥: ٤، ٥).

نبلغ إلى الخلود الذاتيّ بالانتصار على العالم –وهو عملٌ عظيم. يقول الربُّ: "ثِقوا. أنا قد غلبتُ العالم" (يو ١٦: ٣٣)، ونحن نعلَمُ أنّ هذه الغَلَبة لم تكن بالأمر السهل. "اِحترِزوا مِن الأنبياء الكذَبَة... اُدخُلُوا منَ الباب الضيّق، لأنّه واسِعٌ البابُ ورَحْبٌ الطريقُ الّذي يُؤدّي إلى الهلاك، وكثيرون هُمُ الّذين يدخلون مِنه. ما أضيَقَ الباب وأَكرَبَ الطريق الّذي يُؤدّي إلى الحياة، وقليلون هُمُ الّذين يجِدونه" (مت ٧: ١٣ -١٥).

 

أين يكمن الهلاك؟ في ابتعادِ البشر عن الإله الحيّ

لا بدّ للمرءِ، لكي يؤمن بالمسيح، أنْ يمتلكَ بساطةَ الأطفال الصغار "إِنْ لم تَرجِعوا وتَصيروا مثلَ الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات (مت ١٨: ٣) –أو أن نصير جُهّالاً من أجل المسيح على مثال بولسَ الرسول. "نحن جُهالٌ مِن أجل المسيح... نحن ضُعفاءُ... بلا كرامة... صرنا كأقذار العالم ووسَخِ كلِّ شيءٍ إلى الآن" (١ كور ٤: ١٠، ١٣). ولكن، "لا يستطيع أحدٌ أن يضع أساسًا آخرَ غَيرَ الّذي وُضِعَ الّذي هو يسوعُ المسيح" (١ كور٣: ١١). "فأطلُبُ إليكم أنْ تكونوا مُتمَثّلين بِي" (١ كور٤ : ١٦). في الخبرة المسيحيّة يتولّدُ الإدراكُ الكونيّ من الصلاة، على شبه صلاة المسيح في الجِسمانيّة، وليس نتيجة تأمُّلاتٍ فلسفيّةٍ نَظَريّة. حين يكشفُ الإلهُ ذاتَه في رؤيةٍ للنور غير المخلوق، يفقد الإنسانُ تلقائيًّا كلَّ رغبةٍ في الانضمام إلى المُطلَق الّذي يتخطّى الشخصانيّة. إنّ المعرفةَ الّتي نتشرّبها مع الحياة، كمُعارِضة للمعرفةِ النظريّة، لا يُمكن حَصرُها في الفكر أبدًا: لا بُدَّ من وجود اتّحادٍ حقيقيّ مع عملِ الوجود، وهذا يتحقّقُ بالمحبّة: "تُحِبُّ الربَّ إلهَكَ مِن كلّ قلبكَ... ومِن كلّ فكركَ" (مت ٢٢: ٣٧). فالوصيّةُ تدعونا إلى المحبّة. ليست المحبّة إذُا شيئًا يُعطى لنا: ينبغي علينا اكتسابها من خلال جهدٍ نقوم به بإرادتنا الذاتيّة. تتوجّه الوصيةُ أوّلاً إلى القلب، كَونه المركز الروحيّ للإنسان. أمّا الذهنُ فهو إحدى قِوى الإنسان. تبدأ المحبّة في القلب، والذهن يلتقي بحدثٍ داخليّ جديد ويتأمّلُ الوجودَ في نور المحبّة الإلهيّة.

 

الصلاة عملٌ صعب

ليس من عملٍ نسكيّ أصعب وأوجع من جهد التقرّب من الله، والله هو محبَّة (١ يو ٤: ٨، ١٦). غالبًا ما يتغيّر مناخُنا الداخليّ من يومٍ إلى يوم: تارةً نضطرب كوننا لا نفهم ماذا يجري من حولنا؛ وطَورًا يُلهمنا وميضٌ جديد من المعرفة. الاسمُ ‘يسوع’ يخبرنا عن إظهار محبّة الآب لنا بإفراط (يو ٣: ١٦). وبنسبةِ ما تصير صورةُ المسيح فينا أكثر قدسيّةً، وتُلمَس كلمتُه كطاقةٍ خَلّاقة، هكذا يغمر النفسَ سلامٌ عجيب وتُغَلِّفُ هالةٌ منيرة القلبَ والرأس معًا. عندها قد يُتاح لانتباهنا أن يثبُت منتَظِمًا، فنواظب تارةً على هذه الحال كما لو أنّنا في حالةٍ طبيعيّةٍ جدًّا، غير عالمين بأنّها عطيّةٌ من العَلاء. إنّ مُعظمنا يعي هذا الاتّحاد بين العقلِ والقلب معًا فقط متى انقطع منّا.

 

في المسيح يسوعَ الإنسان "يَحِلُّ كلُّ مِلء اللاَّهوت جسديًّا" (كول ٢: ٩). ليس الله فيه وحسب، بل كلُّ الجنس البشريّ أيضًا. فيما نلفظُ اسمَ يسوع المسيح نضعُ ذواتنا أمام مِلء الكيانِ الإلهيّ والكيانِ المخلوق معًا. نحن نَتوقُ لأن نجعلَ من حياته حياتَنا، ولأن نجعله يسكن فينا. ففي هذا يكمن معنى التألُّه. غيرَ أنّ تَوقَ آدم الطبيعيّ إلى التألُّه منذ البدء أَخَذ منحًى مُختلِفًا قادَه إلى انحرافٍ مُريع. لمْ تثبُتْ رؤيتُه الروحيّة في الحقّ بشكلٍ كافٍ. فحياتُنا تتقدّسُ على جميع الأصعِدة فقط متى اقترنَت المعرفةُ الحقيقيّة الفائقة الطبيعة بمحبّتنا الكاملة لله ولإخوتنا البشر. عندما نؤمِنُ بثباتٍ أنّنا خليقة الله الكائن الأزليّ، سينجلي لنا أنّه خارجَ الثالوث القدّوس لا تألّهُ يُرتجى. وإن أدركنا أنّ الطبيعة البشريّة هي واحدةٌ ضمن وجودها، فَلِأجل هذه الوحدة ينبغي علينا أن نجاهدَ لأنّ نحبَّ قريبَنا الّذي هو شريكٌ لنا في الوجود.

 

إنّ الكبرياء هي عَدوُّنا الرهيب، فقدرتُه هائلة. الكبرياءُ تستنزفُ كلَّ مَطمحٍ لنا وتُبطِلُ كافّةَ مَساعينا، فيقعُ مُعظمُنا فريسةً لِمُداهَناته. الإنسانُ المتكبّر يريد أن يسيطرَ، وأنْ يفرضَ مشيئتَه الذاتيّة على الآخرين؛ على هذا النحو ينشأ الخلاف بين الإخوة. إنّ اللاتَساوي الهرميّ يتعارضُ مع ما كُشِفَ لنا عن الثالوث القدّوس الّذي لا يوجد فيه ‘الأعظم’ ولا ‘الأقلّ’، بل مِلءُ الوجود الإلهيّ بكامله. إنّ ملكوت المسيح يرتكزُ على مبدأ أنّ كلّ "من أراد أنْ يكون أوّلاً ينبغي أن يكون خَادِمًا لِلجميع" (مر ٩: ٣٥). مَنْ يضع نفسَه يرتفع، والعكس كذلك: مَنْ يرفع نفسه يَتَّضِع. من خلال جهادنا في الصلاة، سوف نُنَقّي عقولَنا وقلوبَنا من كلّ ما يَحُثُّنا على السيادة على أخينا. إنّ شهوةَ السلطة هي موتٌ للنفس. يَغتَرُّ البشرُ بِعَظمَةِ القوّة ويتغافلون عن "أنّ المستَعلي عند الناس هو رِجْسٌ قُدّام الله" (لو ١٦: ١٥). تحُثّنا الكبرياءُ على الانتقاد، وحتّى على الازدراء بأخينا الأضعف، غيرَ أنّ الربّ قد حذّرنا: "اُنظروا لا تحتقِروا أحدَ هؤلاء الصغار" (مت ١٨: ١٠). إن استسلمنا للكبرياء فكلّ ممارساتِنا لصلاة يسوع ما هي إلّا تَجديفًا على اسمه. "مَن قال إنّه ثابتٌ فيه ينبغي أنّه كما سلكَ ذاك هكذا يَسلُكُ هو أيضًا" (١ يو ٢: ٦). مَنْ يحبُّ المسيحَ بحقٍّ يُكرّس كلّ قِواه لطاعة كلمته. إنّني أشدّدُ على هذا، لأنّه نهجُنا الفعليّ لتعلّم الصلاة. إنّ هذا الدربَ هو الصحيح، وليس أيّة تِقَنِيّةٍ نفس-جسدانيّة أُخرى.

 

الصلاة ليست يوغا مسيحيّة

لقد أَسهبتُ في التفسير العقائديّ عن صلاة يسوع بصورةٍ عامّة. لأنّه في العِقد الأخير، ولغاية اليوم، قد انحرفت ممارسةُ هذه الصلاة إلى ما يُسمّى ‘يوغا مسيحيّة’، وأُسيء فَهمُها على أنّها ‘تأمُّلاً تجاوزيًّا’. كلُّ ثقافةٍ، وليست الدينيّة منها فقط، تُعنى بِتمارين نُسكيّة. متى جازَ وجودُ تَشابُهٍ مُعَيّنٍ، سواءٌ في ممارسة الثقافات أو في أشكالها الخارجيّة، أو حتّى في صيغَتِها الباطنيّة، فهذا لا يوحي قطّ إلى أنّها متشابهة أساسًا. قد تكون الحالاتُ المتشابهةُ في ظاهرها مختلفةً، إلى حدٍّ كبير، في مُحتَواها الداخليّ.

حين نتأمّلُ بحكمة الله في جمال الكون المخلوق، يستقطبُ أشدَّ انتباهنا في الوقت عَينه جمالُ الكائن الإلهيّ الّذي لا يَفنى، كما كشَفَه لنا المسيح. بالنسبة لنا، الإنجيلُ هو ما كَشَفَه الله لنا عن ذاته. من خلال شوقنا لجعل كلمة الإنجيل جوهرَ كلِّ وجودنا، نُحرِّرُ ذواتنا بقوّة الله من هيمنة الأهواء علينا. إنّ يسوعَ هو المخلّصُ الوحيد، بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. فالصلاةُ المسيحيّة تتفعَّلُ بالدعاءِ المتواصل باسم يسوع: ‘أيّها الربُّ يسوعُ المسيح، ابن الله الحيّ، ارحمنا وارحم عالمك’.                           

مع أنّ الغاية القصوى من الصلاة باسم يسوعَ هي الاتّحاد التامّ للإنسان مع المسيح، إلّا أنّ الأقنوم البشريّ لا يُلغى ولا يذوب في الطبيعة الإلهيّة كما تضيع قطرةُ ماءٍ في المحيط. "أنا هو نور العالم... أنا هوَ الحقّ والحياة" (يو ٨: ١٢؛ ١٤: ٦). إنّنا لا نستعمل مع التعابير: ‘كيانُ المسيح’ و‘الحقّ’ و‘الحياة’، عند السؤال عنها، ‘ما هو’ بل نستعمل ‘مَنْ هو’. فحيث تنتفي الصيغة الشخصانيّة للوجود، تنتفي معها صيغة الحياة أيضًا. وحيث تنتفي الحياةُ بشكلٍ عامّ، ينتفي معها الخيرُ والشرّ، والنورُ والظلمة. "بغيْرهِ لم يكن شيءٌ مِمّا كان. فيه كانت الحياة" (يو ١: ٣).

 

متى تَضَافَر تأمّلُ النور اللامخلوق مع الدعاءِ باسم المسيح، تتجلّى أهمّيّةُ هذا الاسم بأجلى بيانٍ كما يُعبِّر الإنجيل عنها: "ملكوت الله قد أتى بقوّة" (مر ٩: ١)، فتَسمَع روحُ الإنسان صوتَ الله الآب: "هذا هو ابني الحبيب" (مر ٩: ٧). إنّ المسيحَ قد أَظهَر لنا الآبَ في شخصه: "الّذي رآني فقد رأى الآب" (يو ١٤: ٩). إذًا، نحن نعرفُ الله الآبَ بالمقدار ذاته الّذي قد عرِفْنا فيه الابنَ: "أنا والآبُ واحد" (يو ١٠: ٣٠). والآبُ يشهد لابنه. ولذا نحن نردِّدُ الصلاةَ: "يا ابنَ الله، خَلِّصنا وخَلِّص عالمك".

 

إقتناء الصلاة هو اقتناء الحياة الأبديّة

حينما يرقُدُ الجسدُ مائتًا، تصير الصرخة باسم ‘يسوع المسيح’ حُلّةَ الروح؛ وحينما يتعطّل الدماغ عن وظائفه، والذاكرةُ تستصعِب استظهارَ الصلوات، سوف تنهض روحُنا إلى حياةٍ لا تَفنى في نور المعرفةِ الإلهيّة الّتي تنبثِقُ من اسم يسوع.

 


[1] من كتاب "His Life is Mine". 



آخر المواضيع

عظة في إنجيل الإيوثينا التاسعة (يوحنا 20: 19 - 31)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-22

عظة في إنجيل الإيوثينا الثامنة (يوحنا 20: 11 - 18)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-15

عظة في إنجيل الإيوثينا السابعة (يوحنا20: 1 - 10)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-08

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا