عظةٌ في إنجيل الأحد الثاني من الصَّوم


القديس يوحنا كرونشتادت

تعريب شادي مخّول

 

«يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (مر 2: 5)

 

من الواضح أنَّ المفلوج قد أُحضِرَ إلى المسيح ليشفيه من مرضه الذي جعله مطروحَ الفراش. غير أنَّ المسيح قد شفى نفس المفلوج من خطاياها أوَّلًا، ومن ثمَّ شفى جسده من مرضه. إذ قال له: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» وبعد أن غفر خطاياه قال له «قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» (مر 2: 11). ماذا تعني طريقة الشِّفاء هذه؟ إنَّها تعني أنَّ الأمراض التي تُصيبنا هي نتيجة خطايانا، وأنَّه يستحيل علينا أن نتحرَّرَ كليًّا من الأمراض ما لم نُنقِّي أنفسنا من هذه الخطايا أوَّلًا، تمامًا كما يستحيل القضاء على النتائج قبل الفتك بأسبابها أوَّلًا. وبما أنَّه من الطَّبيعيّ وجود بعض الأشخاص العاجزين في أيامنا هذه، وهم يبحثون عن سُبلٍ للشفاء من عجزهم، سنتكلَّم الآن عن العلاقة التي تربط بين خطايانا وآلامنا الجسديَّة.

 

هل هناك حقًّا من علاقةٍ وثيقة بين خطايانا وآلامنا وأمراضنا الجسديَّة، حتى أنَّ عيوب الجسد القويَّة والطَّويلة الأمد، هي نتيجةٌ لهذه الخطايا؟ حقًّا، إنَّ هناك علاقةً كهذه، ما بين الخطيئة والعيوب الجسديَّة: إنَّ الخطيئة تفتك بالنفس كما بالجسد أيضًا. هكذا يتحدَّث الرَّسولُ الإلهيُّ عن الخطيئة: «إِنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو 6: 23). هذا يعني أنَّ الخطيئة، كطاغيةٍ قاسٍ، تجمع الجزية من الَّذين يعملون لأجلها؛ الكلُّ يعمل لأجلها. هذه الجزية هي الموت. بالتالي، إنَّ الموت هو جزيةٌ لخطايانا، وفي معظم الأحيان يسبق الموت أمراضًا طويلة الأمد. من هنا تتَّضح هذه العلاقة الوثيقة ما بين الخطايا والعيوب الجسديَّة. عندما تُبادُ الخطيئة، يُبادُ المرض والموت أيضًا. لهذا ما من وجودٍ للأمراض في الدَّهر العتيد. ويشهد يوحنَّا الإنجيليُّ في سفر الرؤيا قائلًا إنَّ «الْمَوْتَ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ» (رؤ 21: 4).

 

غالبًا، بسبب خطايانا، سيُرسل الله بنفسه مرضًا، مثلًا، «ليُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ» (1كور 5: 5)، كما حصل مع ذاك الذي اتَّخذ امرأةَ أبيه، حسب ما ورد في الإصحاح الخامس من رسالة بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس؛ أو يحرم شخصًا ما من إمكانيَّة استعمال حواسِّهِ أو أعضاء جسده، أو يُعرِّض آخرين لأمراضٍ مختلفة. في هذه الحالة، المرض هو من عمل خيريَّة الله، الَّذي «لاَ يُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حز33: 11). حلاوة الخطيئة تغوي الناس فيموتون، لكنَّ الله الكليَّ الصلاح، لا يبتغي أن نُبادَ إلى المنتهى، إنَّما يشاءُ أن نصير كلّنا شَركاءً في غبطته. لكن، كيف له أن يصنع ذلك عندما لا يكترث الإنسانُ للنعيم الآتي ولا يفطن للعذاب الأبدي، وعندما يُسلِّم ذاته بالكليَّةِ للملذَّات والمُتَع الدنيويَّة؟ عندما يكون الإنسانُ حيًّا، يشعر بملء قوَّته ويفتكر بمدى ملاءمة هذه الحياة حسب ما يشتهي. كيف ندفعه إلى التفكير بالله وبالحياة الأبديَّة التي خُلق لينالها، أم كيف ندفعه إلى سُبل الإيمان والفضائل لكيما يُصبحوا حياةَ قلبه؟ الطَّريقة المُثلى لتحقيق هذه الغاية هي الأمراض والآلام. على المرء فقط أن يُحدِّقَ بإنسانٍ مريضٍ أو بآخرٍ حلَّت به بليَّةٌ ليقتنع بفائدة الأمراض والبلايا. عندما تحدث هذه الأمور، يبدأ الإنسانُ بالتفكُّرِ في اليوم الذي سيلتقي فيه مع الله، سيدخلُ إلى ذاته وسيرى كم هو حقيرٌ وزائل: «كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ الْحَقْلِ» (إش 40: 6). ويرى أنَّ كلَّ ما هو أرضيٌّ هو غبارٌ وباطلٌ، وأنَّ الله والفضائل فقط يدومون إلى الأبد، وأنَّه على الإنسان أن يخدم الله في هذه الحياة بالرُّوح والحقّ وأن يدَّخر الفضائل للحياة الأبديَّة.

 

يا إخوة! كلُّنا نمرض وتكتنفنا البلايا، وكلُّنا نتمنَّى، وفقًا لشريعة السلامة الذاتيَّة، أن نكون أصحَّاءَ ومعافين. لنتذكَّر أنَّ أمراضنا، التي هي ثمرةُ تعدِّياتنا وعيشنا في التواني والخلاعة منذ البدء، هي في معظم الأوقات، حسب قوَّتها وأمدها، عقابٌ من الله على خطايانا. إن أردنا أن نكون أحرارًا من المرض، علينا أن نفتك بمسبّباتها الرئيسيَّة، أي خطايانا، حينئذٍ ستتبدَّد كلُّ البلايا الظاهرة من تلقاء ذاتها. لنتذكَّر أنَّ العيوب والموت لما وُجدوا في الجنس البشريِّ لو لم تدخل الخطيئة إلى العالم بالإنسان الأوَّل. دعوا الآخرين يتخيَّلون ما يشاؤون عن أسباب الأمراض؛ ولكن إن توغَّلوا في عمق جوهر هذه المسألة، سيصلون إلى التفسير عينه عن ماهيَّة الأسباب الرئيسيَّة. إلى حدٍّ ما إنَّ طبيعةَ الإنسان الجسديَّة قد تهشَّمَت بشدَّة، وقد هشَّمتها الآن قوَّاتٌ عدائيَّةٌ داخليَّة، لذلك هي حسَّاسةٌ تجاهَ أبسطِ تغيُّرٍ طبيعي، الذي هو سبب صيرورتها ضعيفة وسهلة الفناء.

 

الآن هو وقت الشفاء الروحيّ. هلمَّ نفرُّ من الخطيئة التي تُعذِّبُ نفوسنا بشدَّةٍ، حينئذٍ «تَنْبُتُ صِحَّتُنَا سَرِيعًا» (إش 58: 8).

 

المصدر:

Season Of Repentance: Lenten Homilies Of Saint John Of Kornstadt. Page 101-104.



آخر المواضيع

بَرَكَة صليبنا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

المتروبوليت أثناسيوس ليماسول 2024-04-06

في السلام بيننا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

‏القدّيس غريغوريوس بالاماس 2024-03-28

عظة في أحد الأرثوذكسيّة​​
الفئة : زمن التريودي المقدّس

القديس لوقا الجرّاح، أسقف سيمفروبول 2024-03-24

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا