عظة في الأحد الرابع من الصوم


القدّيس يوحنا كرونشتادت
تعريب نقولا انطوان موسى

 

قُرِئ اليوم أيّها الإخوة والأخوات المَحبوبون المقطع الإنجيليّ من الإنجيل بحسب مرقس، عن كيف طلب أبٌ من يسوع المسيح أن يشفي ابنَه، الصبيَّ الأصمّ الأبكَم الذي كان ممسوسًا، بإخراج الروح الشرّيرة التي سَبَّبَت حالة الصبيّ. يقول الربّ لهذا النَّجِس «أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلْأَخْرَسُ ٱلْأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: أُخْرُجْ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلْهُ أَيْضًا!». فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ.» (مرقس 9: 25-27). ولكن انظروا كم كان هذا الروح الذي عذّب الولد شريرًا. قال أبوه للربّ «حَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ» (مرقس 9: 18). هذا حصل أيضًا عندما أحضر الأبُ ابنَه إلى المخلّص. وعندما سأل الربُّ الأبَ، كأنّه غير عالمٍ بالرغم من كونه الله ويعلم كلّ شيء، «كَمْ مِنَ ٱلزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هَذَا؟». فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي ٱلنَّارِ وَفِي ٱلْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ.» وسأل الربَّ أن يتحنّنَ عليه وعلى ابنه ويساعدهما، إذ إنّه القادر على كلّ شيء. قال له يسوع: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ»، فصاح الأب الشَّقِيّ قليلُ الإيمان بدموع «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي».

 

هل ترون أيّة قوّة يَنسُبُها الربّ للإيمان وللذين يؤمنون؟ يقول «كلّ شيء مُستَطاع للمؤمن». الذين يؤمنون قادرون على إخراج الشياطين وشفاء كلّ أنواع الأمراض. وكم هو عَديم القوّة وبائس الذي لا يؤمن! هو لا يستطيع حتّى أن يسيطر على نفسه، ولا أن يتغلّب على خطاياه، ولكنه يخدمها كعبدٍ ويُعَذَّب من قِبَلها. وكأبٍ تعيس أخذ ابنه الممسوس للرسل ولم يستطيعوا أن يطردوا هذا الشيطان منه، فسألوا الربّ على انفرادٍ لماذا لم يستطيعوا أن يطردوه، فأجابهم الربّ: «هَذَا ٱلْجِنْسُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِٱلصَّلَاةِ وَٱلصَّوْمِ» (مرقس 9: 29). هذا هو مديح الربّ للصلاة والصوم. هذا هو الأساس الإنجيليّ للصوم. كيف يمكن لأولئك الذين يُسَمّون أنفسهم أتباع الإنجيل أن يرفضوا الصوم من حياتنا المشتركة كأنّه غير ضروريّ؟ أليس لأنّه في أيّامنا قد تكاثرت الشهوة والإثم وممتلكات الشيطان بكلّ أنواعها إلى حدّ كبير حتى أنّ بعض المسيحيين قطعوا علاقاتهم مع الكنيسة ونَبَذوا الصلاة والصوم مُعتَبِرينها غير ضروريّة؟ ويعيشون مثل وحوش غبيّة ويَنقادون عبر شهواتهم المختلفة، بينما البعض الآخر، نتيجة حقدهم والرغوة في فمهم مثل الرجل الممسوس، عازمون على ارتكاب كلّ عمل شرير: قتل وانتحار وحريق مفتعل وزرع الألغام وافتعال التَّفجيرات وغيرها الكثير.

 

نعم، أيّها الإخوة والأخوات المَحبوبون، وصل بعض الناس إلى هذا الجنون الرهيب تحديدًا بسبب عدم إيمانهم وعَصَبِيَّتِهم ونجاستهم وكلّ نتائج عدم إيمانهم المدمّرة. لا يعلّمنا إيمانُ الإنجيل الوديع القتلَ وزرع الألغام وافتعال التَّفجيرات، بل يقول: «لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلَاطِينِ ٱلْفَائِقَةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلَّا مِنَ ٱللهِ، وَٱلسَّلَاطِينُ ٱلْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ ٱللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ ٱلسُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ ٱللهِ، وَٱلْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لِأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً فَإِنَّ ٱلْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلْأَعْمَالِ ٱلصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لَا تَخَافَ ٱلسُّلْطَانَ؟ ٱفْعَلِ ٱلصَّلَاحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، لِأَنَّهُ خَادِمُ ٱللهِ لِلصَّلَاحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ ٱلشَّرَّ فَخَفْ، لِأَنَّهُ لَا يَحْمِلُ ٱلسَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ ٱللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ ٱلَّذِي يَفْعَلُ ٱلشَّرَّ. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ ٱلْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ ٱلضَّمِيرِ» (رومية 13: 1-5)، ويوصينا أيضًا أن نصلّي «لِأَجْلِ ٱلْمُلُوكِ وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي مَنْصِبٍ، لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ» (1 تيموثاوس 2: 2). ينيرُ الله أعين القلب، المَعمِيّة بالحقد، لهؤلاء الناس المَمسوسين في هذه الأيام المؤسِفة الذين ينتفضون ضدّ السلطة المُعَيَّنة من الله، يجب أن يعلموا مقدار الهاوية التي يحفرونها تحت أنفسهم والحفرة الجهنّميّة التي هم على وشك الانغماس بها.

 

قديمًا، قبل ظهور المسيحيّة، ثار بعض اليهود ضدّ السلطة الحاكمة، ضدّ موسى وهارون، مُوَبِّخينَهم على حُبِّهِم المَزعوم للسلطة، مُجَرَّد ثرثرة عليهم؛ لكن ماذا نتج عن ذلك وما كان عقاب الله؟ انفتحت الأرض تحتهم، وسقطوا في القعر أحياءً، في حفرة الجحيم، مع عائلاتهم، بينما البعض الآخر، الأقلّ ذنبًا، التهَمَتهُم النّار الصّادِرة من الهيكل (عدد 16: 1-35). انظروا كم هي خطيئة رهيبة أن نَثور ضدّ من هم في السلطة! ماذا ينتظر إذًا هؤلاء العَدَمِيّين[1]، ماذا سيكون حكم الله؟ بقدر ما يسحقون عطايا الله، سيكون حكم الله أعظم. فمن هم هؤلاء العَدَمِيّون الإرهابيّون؟ أُناس مُعَمَّدون، مسيحيون، يرتكبون أعمالًا من العنف كهذه كالقتل والانتحار وأمور شيطانيّة. لماذا وُلِدوا؟ لماذا لم يموتوا في أرحام أمّهاتهم؟ كان أفضل لو لم يولدوا. أن يُداس على عطايا الله بوحشيّة وجنون: على نعمة المعموديّة والميرون وجسد المسيح ودمه، هو أمر رهيب بالفعل! يا لتعاسة أهل هؤلاء الأولاد! يا لهذا العار الذي يعانون منه!

 

أيّها الإخوة والأخوات، دعونا نتمسّك بإيمان كنيسة المسيح بإخلاص، بهذه السفينة الخلاصيّة التي تحفظنا من الطّوفان الكَونيّ الناريّ الذي سيصيب جميع العُصاة في الوقت المستحق. لنتمسّك بِرُسوم الكنيسة المقدّسة التي تقودنا إلى الخلاص. دعونا نلتزم بِثَباتٍ بالصوم والصلاة ونكون مُتَحَمِّسين لخدمة الله. الشيطان، عدوّ خلاصنا، لا ينام، بل «يَجُولُ كَأَسَدٍ زَائِرٍ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هو» (1 بطرس 5: 8)، وكم عدد الذين التَهَمَهُم! الصوم والصلاة بِغيرَةٍ وتواضع وإيمان ومحبّة هي أسلحة فعّالة ضدّ الشيطان وضدّ كلّ الشهوات التي تحاربنا. آمين.

 

Season of Repentance: Lenten Homilies of Saint John of Kronstadt, pages 148-152.

 


[1] العَدَمِيّة (Nihilism) هي رفض جميع المبادئ الدينية والأخلاقية، والاعتقاد بأن الحياة لا معنى لها ولا قَصد ولا يوجد فيها حقيقة. ظهر هذا الفكر خاصةً في القرن التاسع عشر مع فريدريك نيتشه (Friedrich Nietszche).



آخر المواضيع

بَرَكَة صليبنا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

المتروبوليت أثناسيوس ليماسول 2024-04-06

في السلام بيننا
الفئة : زمن التريودي المقدّس

‏القدّيس غريغوريوس بالاماس 2024-03-28

عظة في أحد الأرثوذكسيّة​​
الفئة : زمن التريودي المقدّس

القديس لوقا الجرّاح، أسقف سيمفروبول 2024-03-24

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا