القديس باييسيوس فيليتشكوفسكي: أبٌ هدوئيٌّ عظيم (2/8)

إيروثيوس ميتروبوليت نافباكتوس

تعريب شادي مخّول

 

1. في طريقه إلى الرَّهبنة:

كان اسمه في المعموديَّة بطرس، وُلد سنة 1722 في مدينة بولتافا في أوكرانيا، أو روسيا الصُغرى كما سُمِّيَت مرَّةً. تُوفِّيَ والده عندما بلغ السَّنة الرَّابعة من عمره. وفي سنّ العاشرة كان يقرأ كِلا العهدين، القديم والجديد، وكتاب لآلئ الذَّهبي الفم، والقدّيس أفرام السريانيّ والأنبا دوروثاوس وكُتُبًا أُخرى. قراءة هذه الكتب ولَّدت فيه حُبًّا للرَّهبنة.

أثناء دراسته في مدرسة كييف الكنسيَّة، أبدى حماسةً تجاه الأمور الرُّوحيَّة أكثر من الدروس السكولاستيكيَّة التي كانوا يُدَرِّسونها آنذاك. وهو بِذاته يَصِف حوارًا دار بينه وبين أستاذه، وفيه تظهر حماسته المُبكِرة للتقليد الآبائيّ الهدوئيّ. كان يقصد كهوف لافرا كييف، وهناك، استلهم من الحياة الرهبانيَّة ومن نُسك الرُّهبان، فَنَما في داخله حبُّ الرَّهبنة وحياة الصَّحراء.

حين نقرأ سيرته نلاحظ حَمِيَّتَه للرَّهبنة الهدوئيَّة، التي نمت فيه منذ فُتُوَّته. هناك عباراتٌ استخدمها في سيرة حياته تُظهر حبَّه للرَّهبنة، إضافةً إلى الرَّهبنة الهدوئيَّة التي أسرت نفسه. يقول:

«حبُّ الرَّهبنة أسرَ نفسي، ولم أشعر بحماسةٍ لمتابعة دروسي، إنَّما شعرت باندفاعٍ إلى ترك العالم في أقرب وقتٍ ممكنٍ لأصير راهبًا».

«لقد جئتُ في المساء، وكنت غريبًا هناك إذ لم أكن أعرف أحدًا، فكنتُ أمضي الليلة في أحد الكهوف الصغيرة قرب الكنيسة، أو في الدير الكبير قرب الجَرَسِيَّة، وهناك كنت أمكث إلى حين استدعائنا للبدء في قانون الصَّلاة».

«أغبِّط الهدوء المثلَّث الغبطة».

«هناك قد اشتعلت في قلبي رغبة لشيءٍ واحدٍ كان مستحيلًا، لذلك، وإن أمكَن، لن أرغب بأيّ شكلٍ أن أغادر تلك الكهوف المقدَّسة، وسأمضي حياتي مُقيمًا في تلك الكهوف. لكن نَظَرًا لاستحالة ذلك، كنت أترك تلك الكهوف بأحزانٍ وتنهُّدات».

لقد تعهَّد مع زملاء المدرسة الذين كانوا قد اقتنوا هذه الرَّغبة أيضًا: «لِنَنزَح من وطننا إلى مكانٍ مَعزولٍ وهادئ، وفَور إيجادنا لمرشدٍ مختبر لِنُفوسنا، سَنُسَلِّم ذواتنا إليه بطاعةٍ، وعندما يَحين الوقت المناسب سننال منه الشرطونيَّة الرهبانيَّة». لقد قرَّروا العيش «حتى آخر رمقٍ من حياتهم في الفقر الرهبانيّ والكَرَبة».

لقد بحث عن النُّساك والمُتَقَشِّفين والآباء، وقد نال منفعةً من حضورهم ومن كلماتهم. «أنا الواقف في حضرتهم، قد سمعت كلماتٍ نافعةً للرُّوح، وقد بدت هذه الكلمات، كلمات الحياة الأبديَّة».

ترك دراسته في كييف ليُتمِّم رغبته العظيمة بأن يُصبح راهبًا، غريبًا في وحدةٍ وكربةٍ، وفي الوقت عينه انفصل عن والدته في جوٍّ مُتَقَلِّبٍ ومشحونٍ بالعواطف. شَغَفُه بالحياة الرهبانيَّة كان مذهلًا، كذلك إرادته القويَّة لإتمام رغبته.

سينذهل من يقرأ عن المِحَن التي واجهها أثناء بحثه عن مكان مناسب، في زيارته للأديرة المختلفة وفي لقائه مع نسّاك أراد أن يسلك تحت طاعتهم مبتغيًا خلاص نفسه. كالناسك يزيخيوس مَثَلًا. لقد عبر الأنهار والغابات والأشفار، وكابدَ عذاباتٍ لا توصف ولا يمكن تَخَيُّلها.

عندما انضمّ إلى أحد الأديرة كراهبٍ مبتدئ، أوصاه رئيس الدَّير بأن يرتدي اللِّباس الرهبانيّ. يقول: «لقد ضَرَبتُ له مطانيَّةً فبارَكَني وانصرفتُ إلى قلَّايتي، فنزعتُ عَنّي ثيابي العِلمانيَّة وارتديتُ اللِّباس الذي أعطاني إيّاه رئيس الدَّير، الذي قبَّلتُ يديه مرَّاتٍ كثيرةٍ كما لو كانت شيئًا مُقَدَّسًا. وقد استمرَّيت في ارتدائها إلى أن أصبحت رثَّةً عليَّ، وشكرت الله لأنَّني، بدل أن أرتدي ملابس دُنيويَّة إلى هذا الحين، فقد أُهِّلتُ إلى ما كنتُ أطلبه، أي الرَّهبنة».

وصل، أثناء بحثه عن مكانٍ مناسب، إلى دير القديس نيقولاوس القائم على ضِفاف نهر ترايستيني المُسمَّى أيضًا بميدفيدوفسكي. هناك نال الإسكيم الرهبانيّ الصغير وسُمِّيَ بأفلاطون. إثر الاضطهاد الذي لحق بالدير، وبعدما تعرَّضوا لضغوطات من الرَّسميّين للانضمام إلى الإتحاديّين الكاثوليك (Unia)، اضطرّ إلى العودة إلى كهوف لافرا كييف.

أثناء إقامته هناك، نال منفعةً روحيَّة بسبب وجود آباءٍ نُسّاكٍ عظماء قد برزوا بِنُسكِهم وفضيلتهم. قال عن أحد الرُّهبان: «كانت نفسي الذَّليلة تنال فائدةً فقط من خلال النَّظَر إليه». وكتب مُشيرًا إلى النسَّاك العظماء: «برؤيتي لهذه الأمور وتأمُّلي بها، التهبتُ بكليَّتي محبَّةً بهذا المكان المقدَّس وشكرتُ الله من كلّ نفسي، لأنَّه جَعَلَني أنا غير المُستَحِق، مُستَحِقًّا لأكون موجودًا في هذه اللَّافرا المقدَّسة».

عادةً، لم يقبل هؤلاء النسَّاك بأن يُرشِدوا آخرين، ومع ذلك فقد شرع بالبحث عن مُرشدٍ روحيّ. فبحث عنه في مولدوفا مارًّا في عدَّة أمكنةٍ حيث وصل الثلج إلى رُكبَتَيه، وواجه صعوباتٍ غير مُتَوَقَّعة بينما كان يجتاز الحدود بصحبة رفاقٍ مسافرين. قابل على طول الطريق نُسّاكًا عاشوا نسكًا شديدًا وعظيمًا. فكتب عن أحد الأمكنة: «كان الرُّهبان يجتمعون مع الشَّيخ في مكانٍ واحدٍ مُتَحَدِّثين حتى منتصف اللَّيل. وأنا الأخير، كنت أجلس بينهم مُصغِيًا إلى كلِّ ما كان يُقال بإمْعانٍ. لقد فرحتُ فرحًا لا يُنطَق به ومجَّدت الله بدموعٍ، لأنَّه أهَّلني في شبابي أن أسمع من فم رجلٍ روحيّ كلماتٍ كهذه ممتلئة بمنفعةٍ جزيلة، وكانت خيرَ مرشدةٍ لي في حياتي كُلِّها».

قابل في إسقيط كارنول نُسَّاكًا وآباءً عاشوا التقليد الهدوئيّ. هناك تعلَّم القدّيس باييسيوس «ما هو العمل والثاوريا وسكون الذِّهن الحقيقيّ. لم يتعلَّم هناك اليَقَظة والصَّحوة، التي تسكن القلب من خلال النوس والصلاة القلبيَّة وحسب، إنَّما نَعِمَ في قلبه بالقوى الإلهيَّة التي تصدر عنها أيضًا».

لكن العناية الإلهيَّة شاءت أن يكون القدّيس باييسيوس في جبل آثوس، «بغية ازدهار الكنز ليعطي بِوَفرةٍ كل مَن طلب منفعةً من تعليمٍ روحيّ». هناك اجتهد لِيَجد «أبًا روحيًّا مختبرًا، يعيش في السكينة، ليُخضِع جسده ونفسه تحت طاعته، فيتعلَّم منه طريقة الحياة الرُّوحيَّة».

فور وصوله إلى دير اللَّافرا الكبير، احتفل مع الآباء بعيد القدّيس أثناسيوس، ومن هناك غادر إلى إسقيط دير الـPantokrator. ثمَّ استقرَّ في كوخٍ وبحث عن مرشدٍ روحيّ مناسب. عاش في نسكٍ شديدٍ وتوبةٍ وتقشُّفٍ وعدم قِنيةٍ مطلَقة، وفقرٍ وضيقٍ. حتى في سريره كان يتألَّم في قلبه ويُمارس الصلاة غير المنقطعة، ومحبَّة الله والقريب وتذكُّر الموت والتَّرتيل وقراءة الكتاب المقدَّس وذرف الدموع بغزارةٍ، لأنَّه لم يتمكَّن من إيجاد أبٍ روحيٍّ هدوئيّ ليسلك تحت طاعته. بممارسته لهذا النوع من النسك «انتقل من قدرةٍ روحيَّةٍ إلى أُخرى مُرتَقِيًا بقلبه بالحقيقة. بهذه الطَّريقة، باتِّقاده بالحماسة الإلهيَّة للجهادات العظيمة، فقد تمتَّع بالسَّكينة لمدَّة عامَين ونصف».

نال خلال هذه الفترة الإسكيم الملائكيّ الكبير، كان ذلك حوال عام 1750. حينها كان قد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، وتغيَّر اسمه من أفلاطون إلى باييسيوس. وبما أنَّه لم يجد أبًا روحيًّا فقد تبع تعاليم آباء الكنيسة القدّيسين من خلال كتاباتهم.

هكذا، قد سُرَّت حماسته للحياة الرهبانيَّة، التي كانت تطوَّرت فيه منذ شبابه، بِنَيله عطيَّة الإسكيم الملائكيّ الكبير، وبحبِّه لحياة السَّكينة المباركة ولحياة الرَّهبنة.

 

المصدر:

https://www.johnsanidopoulos.com/2013/11/saint-paisius-velichkovsky-great_16.html