(الجزء الأول) القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟

القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الأول)

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس (Symeon Kragiopoulos).

عن كتاب:

"Anxiety, how it is created and how it is healed", Archimandrite Symeon Kragiopolos, translated by the sisters of All Saints Monastery, New York, USA.

ترجمة: مجد زغيب، وطوني حرب.

تدقيق لغويّ: طوني حرب.

 

 

الثّقةُ بالله تُبدّدُ القَلق.

يَخلقُ النّاسُ مشاكلَهم؛ بسببِ سلوكِهم الخاطئِ مع الله.

عمَّ تُريدون أن نتحدّث هذا المساء؟ هل لديكم أيّ موضوعٍ جَديرٍ بالنّقاش؟

هل يمكنك أن تُحَدِّثَنا عن القلق؟

يعلّمُنا آباءُ كنيستِنا الأرثوذكسيّون، أنّ الشّرّ هو غيابُ الخير؛ فالشّرُّ لا يوجد من تِلقاء ذاتِه. وكذلك الأمرُ بالنّسبة للظّلام؛ فالظّلامُ، هو غيابُ النّور. أينما وُجِد النّور، من المستحيل علينا أن نُبدّدَه بالظُّلمة. فلا وجودَ للظّلام، حيثما يوجد النّور؛ لذا، لا وجودَ للظّلام، إلّا في غياب النّور. وهذه المعادلة، هي نفسُها في العلاقة القائمة بين الخير والشّرّ.
فلا مكانَ للشّيطان، في النّفس الّتي يسكنُها الله. عندما يملأُ نورُ الرّبّ نفوسَنا، ويكون الرّبُّ هو نورَ حياتِنا؛ حينئذٍ، لا مكانَ للظّلام في نفوسِنا: عَبَثًا نحاولُ زرعَ الظّلمة في النّفس؛ لأنّ الظّلامَ الرّوحيَّ، هو الغيابُ لنورِ الله.

الوضعُ، هو نفسُه في موضوع القلق؛ فالقلقُ غيرُ موجودٍ، لولا أنّ البشرَ لا يجلبونَه لأنفسِهم. يجبُ أن ننتبهَ جيّدًا لهذا: يَخلقُ البشرُ مشاكلَهم بأنفسِهم، نتيجةَ موقفِهم الخاطئ تجاه الرّبّ. بشكلٍ عامٍّ، يمكن للأشخاص أن يكون لديهم مفهومٌ خاطئٌ عن ذواتِهم، وعن الآخرين، وعن الواقع والحقيقة، ولكنّهم لا يخلقون آلاف المشكلات لنفسهم، إلّا عندما يتبنَّون مفهومًا خاطئًا أمام الرّبّ.

قد يكون هناك بعضُ الأشخاص الّذين، إن سمعوني أتحدّث عن هذا، سيظنّون أنّي بعيدٌ جدًّا عن واقع الحياة، والمجتمع؛ لكن، ماذا لو قلتُ لكم إنّي أكثرُ منكم دِرايةً في أمور الحياة؟ نعم، صَدِّقوا. أنا كاهنٌ، أعيشُ في هذا العالم، وأرى أعماقَ الأمور، والمَخفِيَّ منها عند النّاس. في الكثير من الأحيان، تكون هذه الأمورُ أكثرَ قَتامةً ومَكرًا، وأسوأَ من واقعِها الظّاهر؛ هذا ما يُكسِبُني بعضَ الفهمِ للواقع.

من هنا، فإنّ التّجاربَ الّتي نعاني منها، وتسيطرُ علينا، تكونُ من صُنعِنا. أرجوكم، أن تنتبهوا لهذا أيضًا. لا تقولوا: «ماذا عسانا أن نفعل، إذا كان الآخرون يجلبون لنا المشاكل؟» يمكنني أن أؤكّدَ لكم، أنّه وإن تقصّد الآخرون أذيّتَنا، فلن نتأثّرَ سلبًا بذلك، إلّا عندما نولي الموضوعَ عنايةً، ونستسلمُ له.

كلُّ شيءٍ وُجدَ لخِدمةِ الإنسان؛ كلُّ ما يحدثُ لنا، يكونُ لمنفعتِنا، حتّى أسوأ الأمور : لذا فإنّ مواجهتَنا الأمورَ تلك، بطريقةٍ خاطئةٍ، هي الّتي تسبّب لنا الأزَماتِ النّفسيّةَ والصّدَمات، وتُلحِق بنا الأذى، وتضغطُ علينا؛ فتُثقِل كاهِلَنا، ويولدُ حينَها القلقُ في نفوسِنا.
 

أنتَ تجرحُ نفسَك، بالسّكّين نفسِه الّذي طُعِنتَ به.

تخيَّل أنّ شخصًا ما، طعنَكَ بسكّينٍ حادٍّ، وأنتَ بدورِكَ أخذت هذا السّكّين، وغرزتَه أكثر فأكثر في الجرح؛ ردّةُ الفعل هذه، إنّما تشبهُ ردّةَ فعلِنا أحيانًا كثيرة، عندما نقلق، أو نتألّم، أو نُجرَح. اِنزعِ السّكينَ، وانظر كيف أنّ جرحَكَ سوف يلتئم. ولكنّك، بدلًا من أن تُزيل السّكّين من الجرح، ستحتفظُ به هناكَ، حتّى أنّك لن تسمحَ لأيّ شخصٍ آخرَ بمساعدتِك لاقتلاعِه؛ فتستمرَّ بإيذاء نفسِك.

لنأخذْ مثالًا آخرَ. عندما يؤذيك شخصٌ ما بأقوالِه، ويسبّب لك صدمةً نفسيّةً، فإنّك لا تنفكّ عن التّفكير بذلك، وتُسيطر الأفكارُ عليك، وتشوّش ذهنَك. أليس كذلك؟ وإن لم يُشفَ غَليلُك، تَغضب من ذلك الشّخص، وتخطئ تجاهه، فتَكُنّ له الكراهية.

كلُّ ما سبق، يعني هذا: أنتَ تجرحُ نفسَك، بالسّكّين نفسِه الّذي طُعِنتَ به. مع أنّكَ إن رَمَيتَهُ بعيدًا، لن يحدثَ لك ضررٌ كثير. على مَن يقعُ اللّومُ إذن؟ مَن طَعنَكَ مرّةً، يُلامُ مرّةً واحدةً؛ لأنّه طعنَك. لكن، حقيقة أنّك تستمرّ في إيذاء نفسِك، وبالطّريقة نفسِها، توقِعُ عليك اللّومَ مئةَ مرّةٍ، وألف مرّة.

صحيحٌ أنَّ فِعلَ الشّرّ، بدأ ممّا فَعلَه بنا ذلك الشّخص، لكن إن حَلَّلْنا الواقِعة، ونظرنا في أعماقِها، نرى أنّنا قد ساهمنا بها أيضًا. لا أحدَ بريءٌ تمامًا. الرّبُّ يحبّنا، ويحمينا؛ لا يدعُنا أيتامًا تحت رحمةِ الآخرين؛ الرّبُّ يسمح بأن نعانيَ، يعني أنّنا نحتاجُ المعاناة. لذا، علينا أن نقول: «يا ربُّ، ما دامَكَ سمحْتَ بهذا، فلا بدّ من أنّي أحتاجُه. لم أكن على الطّريق المُستقيم، لذا فالسّبب الأساسُ هو أنا. اِغفِر لمَن جَرَحَني». منذ ذلك الحين، سنواجهُ الأمورَ بطريقةٍ صحيحةٍ، ولن نغرزَ السّكّينَ في الجرح مجدّدًا.

 

ثِق بالله ثِقَةَ الوَلَدِ بأبيه.

نحن بأنفسِنا، نخلقُ الضّيقاتِ كلَّها الّتي نعاني منها، في هذا العالَم. في أثناء عملِنا مع الآخرين، من المؤكّد أنّنا نضايِقُهم، والعكس بالعكس؛ نخطئ تجاههم، والعكس بالعكس. كلٌّ يفكّر بمصالِحه الخاصّة فقط، ويريد العَيش على حساب الآخَر. لكن، بما أنّنا نحبُّ أنفسَنا، نتحمّل من الآخرين ما يفعلونه بنا؛ إلّا أنّنا السّببُ الأوّلُ، والأعمقُ لما نمرّ به. كما أقول دائمًا، في عظاتي، إنّ المشكلة لا تكمن في ما يصيبُنا؛ إنّما في الطّريقة السّيّئة الّتي نواجهُه بها. حينما نواجه الضّيقاتِ بصفتِنا أبناءَ الله، وبفهمٍ روحيٍّ، خاضعين لمشيئة الله، وعالِمين أنّها لمنفعتِنا، فإنّها لن تقوى علينا، ولن تُقلقَنا أبدًا.

إنّ الأطفال، بصورةٍ عامّةٍ، لا يعانون من القلق، باستثناء من يولَدون مع وضعٍ خاصٍّ. الفئة الأكبر الّتي تعاني من القلق، هي عند البالغين الّذين يُدركون مسئوليّاتِ الحياة الكثيرةَ، ويتعاملون معها. لكن، لماذا لا يشعر الطّفلُ الصّغيرُ بالقلق؟ السّببُ لا يكمن في أنّ عقلَه غيرُ ناضجٍ بعدُ؛ بل في أنّه يثق بأبيه وأمّه. فالطّفل اليَتيمُ المتروكُ إن بكى، فهو يبكي، ويبكي إلى أن يُرهقَ نفسَه. بعكس من له أبوان يهتمّان به، ويُطعمانه، ويعانقانه، ويبتسمان له. حتّى إن انهارَ العالمُ بأسره، سيبقى هذا الطّفلُ مُرتاحًا.

عندما يثقُ الإنسانُ بالله، بهذه الطّريقة، لن يقلقَ مجدّدًا. كما يثقُ الطّفلُ الصّغيرُ بأبيه، ينبغي لنا أن نثقَ بالله، أيًّا كانت مشاكلُنا وظروفُنا. الله يحمي أبناءَه، أكثر ممّا يفعل الأبُ الأرضيّ: عندما يثقُ الشّخصُ بأنّ الله هو من يُدير الدّفّة - دون أن يُهملَ مسئوليّاته – سيشعر براحةٍ عظيمةٍ، تفوق تلك الّتي يشعر بها الطّفلُ بين أحضان والدَيه. القلقُ هو ما يدمّر الإنسان؛ لا العملُ، ولا التّعبُ، ولا التّفكير. واليومَ، القلقُ هو مرضُ العَصر الّذي تعاني منه الأغلبيّة.
 

سَلِّمْ نفسَكَ للرّبّ.

ينبغي لنا التّصديق، أنْ لا أثرَ للقلق في نفسِ من يثق بالرّبّ. لكنّنا قد نفكّر: «يوجد مسيحيّون ينتابهم التّوتّر، لدرجة أنّهم يزورون الطّبيب، ويتناولون الأدوية، وما إلى ذلك». ماذا نستنج من هذا بالضّبط؟ أنّهم لا يثقون بالرّبّ، كما نثق به نحن؟ نعم، هذا صحيح. توجد حالاتٌ غيرُ صحّيّةٍ كهذه: أشخاصٌ تكون لهم طباعٌ وصفاتٌ، تجعلهم يميلون إلى التّوتّر، والانفعال، والقلق. نجدُهم غيرَ قادرين على الاسترخاء، وينزعجون من أيّ شيء. إلّا أنّهم، إذا ما وجدوا الله حقًّا، ووثقوا به، فإنّ ميولَهم هذه، تختفي على الرّغم من أنّها جزءٌ من شخصيّتهم. إنّهم يُشفَون، ويجدون الرّاحة.

كم من الأموال يُنفِق النّاسُ اليومَ، للحصول على هذا الصّفاء، وعلى الاسترخاء، وعدم القلق! لا ينبغي لهم التّبرّع بالمال حتّى؛ إنّما يجب أن يقدّموا أنفسَهم لله. هذا ما يريده الله حقًّا. إن عمِلنا مشيئتَنا، من دون أن نسلّم ذواتِنا لله، فعبثًا نسعى في سبيل الرّاحة، والطّمأنينة. لن نحصدَ إلّا القلق.

يجب أن ندع الله يسودُ حياتَنا، ويتحكّم بها. سوف يجد الشّخص نفسَه في طريقٍ مسدود، بقدر ما هو حريصٌ، وخائفٌ على نفسِه من أيّ شيءٍ يصادفه في الحياة. الله، هو من يرتّب كلَّ شيءٍ: لقد تجسّد من أجلنا. لذا، هو القادرُ على درءِ المعاناة عنّا، وإحاطتِنا بالسّلام الدّاخليّ، حتّى في أصعب اللّحظات الّتي نظنّ فيها أنّنا فقدنا السّيطرة، وفشلنا؛ لأنّ مع الله، لا موتٌ ولا نهاية.

وعليه، ليس الأمرُ مستَغرَبًا أنّ رَجُلَ الله، لا يُسحق أبدًا حتّى إن طعنه الآخرون؛ رَجُلُ الله لديه ملءُ الإيمان بالله، لكن هذا لا يعني أنّه يهربُ من المشاكل، أو أنّه لا يجوعُ أو لا يمرض؛ إنّما يواجه كلَّ ما يعترض طريقَه: لأنّ في المواجهةِ إفادةً، لتجنّب القلقِ، والمعاناة، وجحيمِ النّفس. فالله، بهذه الطّريقة، يخدمُنا، تمامًا كما يخدمُ العبدُ سيّدَه.
 

مشكلةُ النّاس الكُبرى اليوم، هي أنّهم لا يستطيعون العَيش بمُفردِهم.

فلماذا نشعر بالقلق؟ إن كان لدينا سلامٌ وراحةٌ في نفسنا، فإنّ القلقَ يختفي؛ إن كُنّا نقتني اللهَ داخلَنا، ونثقُ به، فإنّ القلقَ يختفي. لا عُذرَ للمسيحيّين لكي يقلقوا، لكن كيف نفسّر هذا للعلمانيّين؟ هل ترَون كيف يخرج النّاسُ إلى المدينة، باحِثين عنِ الفرح؟ يحاولون أن يتناسَوا، وأن يهربوا من أنفسِهم، ويسكروا… لكن، أيَّ فرحٍ سيجدون؟ هل من الممكن، أن تجلبَ هذه الطّريقةُ السّلامَ، والفرحَ لنفوسِهم؟ هل يمكنُها إنقاذَهم من القلق؟ عاجلًا أم آجلًا، سيواجهون أنفسَهم مرّةً أخرى.

عندما يتصالحُ الشّخصُ مع نفسِه، ستسيرُ أمورُه على ما يُرام، وسيتمكّنُ من العَيش مع نفسِه. سيكون صديقًا لنفسِه إلى الأبد، ولن يقاتلَ بعد ذلك من أجل تجنّبِ القلق، أو اقتناءِ السّلامِ الدّاخليّ؛ أمّا عندما يظلُّ يلاحقُ نفسَه باستمرارٍ، ويخشى على نفسِه من الوَحدة، فكيف يمكنُه أن يعثرَ على السّلام، ليُبدِّدَ به قلَقَه؟

مشكلةُ النّاس الكُبرى اليوم، هي أنّهم لا يستطيعون العَيش بمُفردِهم؛ هذا هو السّببُ الكامنُ وراءَ هروبِهم من السّكون، والتّركيز، وصفاءِ الذّهن، والعزلةِ الصّحيّة. يفضّلون، عوضًا من ذلك، الاستماعَ إلى المِذياع، ومشاهدةَ التّلفاز. إن لم يجِدوا شيئًا يفعلونه، يخرجوا إلى الشّرفة، متأمِّلين المارّة، والمناظِر حولَهم.

يعيشُ النّاسُ اليومَ، خارجَ الواقع. لقد خسروا أنفسَهم، وباتوا يحيَون في حالةِ انفصام. لا يفكّرون إلّا بإيذاء الآخرين، وبحياةٍ رَغيدةٍ، وعيشٍ نَعيم.

لقد خلق الله كلَّ شخصٍ، من أجل أن يَحوي الخليقة كلَّها داخل كيانه، جاعِلاً كلَّ شخصٍ عالَمًا صغيرًا (microcosm). كم سيكون الوضعُ مُخيفًا، إذا ما وُجِد شخصٌ ما في الفضاء الخارجيّ، في الظّلمة اللّا متناهية، حيث لا حدودَ لنظره. إنّه عمليًّا، يشعر بالجُنون. كذلك، يكون الشّخص خائفًا، عندما يواجه نفسه، هذا العالمَ الصّغير، هذا الكونَ المُصَغَّر، الّذي هو كيانه. لكن عندما يكون مع الله، فلن يشعرَ بالخوف على الإطلاق.

إن أدركنا أنّ هذه الأمورَ هي حقيقيّةً، يمكننا أن نفهمَ كيف يعيشُ النّاسُ خارج الواقع. إنّهم مُتَغَرِّبون، ومُهانون؛ لقد فقدوا ذواتِهم. لا يستطيعون أن يتكلّموا، أو أن يتصرّفوا بطريقةٍ سليمة. يفكّرون بأنفسِهم فقط، وبأن يوقعوا الإساءةَ بالآخرين؛ لأنّه يكاد بعضُهم يأكُل بعضًا .