لماذا يخسر المسيحيّون أرضهم في هذا الشرق؟
الأرشمندريت غريغوريوس اسطفان
نقلاً عن نشرة الكرمة، عدد 22، 1 حزيران 2025، أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس
من العهد القديم نتعلّم دروسًا قاسية، لماذا كان الله يتخلّى عن شعبه الخاصّ ويُسلمهم إلى أعدائهم؛ فيتناقصون لا بل يُسبون كلّيًّا من أرضهم ليسكنها شعب غريب. السبب: أوّلًا، انتهاك الإيمان، ويعني التخليّ عن عبادة الإله الواحد، والسقوط في عبادة آلهة الأمم. ثانياً، انتهاك وصايا الشريعة الإلهيّة. وانتهاك الوصايا هو نتيجة حتميّة للإبتعاد عن الإله الحقيقيّ. حين تتغيّر العقائد التي تُحدّد حقيقة الإله الّذي نعبده، تتغيّر تلقائيًّا كلّ الوصايا المتعلّقة به.
في العهد الجديد، موضوع الإله الواحد وتعدّد الآلهة، أصبح عقائديًّا متجسّدًا في موضوع الكنيسة الواحدة وتعدّد ما يُسمّى كنائس. فالمسيح أتى إلى العالم وترك كنيسة واحدة وإيمانًا واحدًا؛ وهذا كان صراع الكنيسة إلى هذا اليوم، كيف تحفظ حقيقة الكنيسة الواحدة التي هي جسد المسيح الّذي لا يمكن أن يتجزّأ. لولا سهر الكنيسة في مجامعها المقدّسة على فرز كلّ تعليم منحرف ومخالف للإيمان الأوّل لما بقيت الكنيسة كنيسة، ولكان كلّ واحد يؤمن بمسيح من صنعه الخاصّ، فتتحوّل المسيحيّة إلى ديانة وثنيّة. المسيح موجود لأنّ الإيمان الرسوليّ الأوّل موجود ومحفوظ في هذا الإيمان الأرثوذكسيّ.
يتخلّى الله إذًا عن شعبه إذا تخلّى شعبه عنه، لأنّه يحترم الحرّيّة المقدّسة التي أعطاها للإنسان. المشكلّة الأساسيّة هي إيمانيّة وليست سياسيّة أو اقتصاديّة. يبيع المسيحيّون أرض آبائهم ويُهاجرون لأنّ حسّ الإيمان قد ضعف فيهم. يُهاجرون بسبب نقص الإيمان وعدم اتّكالهم على الله وثقتهم بعنايته، أو لأنّهم يُفكّرون في غنى هذا العالم المادّيّ وليس في الغنى الروحيّ. الكنيسة الضعيفة روحيًّا، والمستسلمة لروح هذا الدهر، تعجز كلّيًّا عن تقديم أيّ طعام روحيّ إلى شعبها. لهذا ينتشر عدم الإيمان في الشعب فيهاجر ويُقاد إلى الكثير من الخطايا والارتداد عن المسيح.
كلّ هذا الفساد والأمراض النفسيّة والتأثيرات الشيطانيّة، التي تزداد بشكل مُخيف في الشعب، عدم تحمّل مسؤوليّات الحياة، كثرة الطلاق، عدم الزواج، وإن تزوّجوا لا يُنجبون، الخوف من المستقبل، كلّ هذا سببه الرئيسيّ عدم الإيمان. الإيمان الحقيقيّ هو تسليم كامل لله في مواجهة تحدّيات الحياة. حين نتوب ونطيع وصايا الإيمان يولد فينا هذا اليقين بأنّ الله معنا وفينا، ولن يتخلّى عنّا أبدًا. التوبة ارتبطت دائمًا بالإيمان. إنّ الله يسمح بحروب واضطهادات قاسية على شعبه، لا لكي يخافوا ويهجروا أرض قدّيسيهم، لكن لكي يمتحن إيمانهم ويُذكّرهم بتوبتهم. عبر التاريخ، عانى المسيحيّون في هذا الشرق اضطهادات أقسى بما لا يُقاس من اضطهادات الزمن الحاضر، لكنّهم واجهوها ببساطة الإيمان والتوبة. لقد ثبتوا في أرضهم، لا لأنّهم كانوا غير قادرين على الهجرة، فالتحوّل إلى دين المضطَّهِدين كان فيه إغراءات مادّيّة ومعنويّة أكثر بكثير من الهجرة المعاصرة. هذا الثبات حتمًا لم يكن بقوّتهم البشريّة، بل بقوّة خفيّة من الله، من نعمته الإلهيّة. وذلك لأنّ آباءنا الّذين أورثونا هذا الإيمان في هذا الشرق كانوا متواضعين وشكورين، لهذا قبلوا الاضطهادات على أنّها تدبير من الله كي يعرفوا إثمهم ويتوبوا. لقد كانوا بتوبة وانسحاق كبيرَين يلجؤون إلى مسيحهم وشفاعة قدّيسيهم. في بساطة إيمانهم وثباتهم فيه كانوا ينمون في التوبة ومحبّة الله، لأنّهم كانوا يُعاينون بالخبرة معونة مسيحهم وعذرائهم وسائر قدّيسيهم، وسرعة استجابة طلبتهم.
العديد من الأساقفة والكهنة، في هذا الزمن، عوض أن يعظوا عن الإيمان والتوبة، يعظون شعبهم بكثرة ضدّ التعصّب الدينيّ. وهم عن معرفة أو عن جهل، يقتلون الإيمان في نفوس شعبهم. التمسّك العنيد بدقّة القوانين المتعلّقة بالإيمان ليس تعصّبًا، إنّما وصيّة من الله ومن مجامع الكنيسة كلّها. الأمانة للقوانين المتعلّقة بالإيمان وحدها تُغذّي إيمان الشعب، وتحفظ مسيرة الكنيسة من الضلال والانحراف. عظات الكهنة في الأخلاقيّات فقط وإهمال مواضيع الإيمان، تنشر إيمانًا سطحيًّا في الشعب. الإيمان السطحيّ بالله ليس فيه توبة البتّة، ويموت تدريجيًّا في النفوس، لأنّ لا عمق روحيّ له.
هذه التوبة نستمدّها من الإيمان لا من ذاتنا، والإيمان نستمدّ قوّته من الله لا من بشر، وقّوة الله موجودة في كنيسته حصرًا. حقًّا الروح يهبّ حيث يشاء، لكن لا لكي يدع الّذين يهبّ فيهم في الضلال والانحراف، إنّما ليقودهم إلى الحقّ وإلى الكنيسة الواحدة الحقيقيّة، التي تحمل ملء الحقّ.
الكنيسة هي المسؤولة الأولى عن كلّ ما يحصل لشعبها. طاعة الأسقف والكاهن للكنيسة وإيمانها هي التي تُعلّم الشعب الطاعة ومحبّة الكنيسة وإيمانها. توبة الأساقفة والكهنة هي التي تُعلّم شعبهم التوبة ومحبّة الله ووصاياه. المؤمنون الحقيقيّون حين يروا طاعة أسقفهم لقوانين الكنيسة وللإيمان يفرحون بأسقفهم ويطيعونه بشكر. وإن رأوا مخالفته تتزعزع ثقتهم به وبالكنيسة. الأسقف والكاهن هما أكثر من يحتاج إلى التوبة. أن يبكوا خطاياهم وخطايا شعبهم. إنّهم ليسوا كأسياد هذا الدهر، إنّما تائبون. التوبة تفتح أعين ذهنهم الداخليّة ليعرفوا مشيئة الله، وأنّ المشكلة التي يمرّ بها المسيحيّون في هذا الشرق هي في الإيمان وفي تخلّي الله عنهم، لا في الظروف القاهرة والسياسة العالميّة.
لماذا يخسر المسيحيّون وجودهم في هذا الشرق؟ أليس لأنّهم يخسرون نعمة الله. وما يُثبّت خسارة النعمة هو هذا الاستسلام للروح المسكونيّة والعصرنة. هذه الروح المسكونيّة تقتل التوبة في النفس البشريّة، لأنّها تقتل أوّلًا محبّة الإيمان الأرثوذكسيّ في هذه النفوس. في الأرثوذكسيّة، محبّة الله نستمدّها من مصدر واحد، من الكنيسة وإيمانها. محبّة الله ليست عاطفيّة، كما يُروّج لها العقلانيّون، إنّما إلهيّة، هي ثمرة انسكاب نعمة الله في النفس الأمينة لكلّ ما كشفه الله للكنيسة.
إنّ إله الأرثوذكسيّين ليس من هذا الدهر، لا يبحث عن أعداد بشريّة ليزهو أكثر في حبّ السلطة والمجد الباطل، إنّما يبحث عن شهود له ولهذه الحقيقة الأزليّة التي أسلمها لكنيسته. الله يتخلّى عنّا نحن شعبه الخاصّ، لأنّنا أصبحنا شعبًا معاندًا مستسلمًا لروح العصر، شعبًا لا يريد أن يحفظ تسليم الإيمان ويشهد للحقّ. لا تقولوا إنّنا أصبحنا قلّة في هذا الشرق. مسيحنا لا يعمل في الكثرة أو القلّة، إنّما في الحقّ. لهذا قال: "أتيت إلى العالم لأشهد للحقّ". إنّ هجرة هذا الشعب تدلّ على تخلٍّ متبادل: الشعب يغرق في العولمة الدينيّة ولا يشهد للحقّ، والنتيجة الحتميّة تخلّي الله عنهم. حين كان شعب العهد القديم يخاف على وجوده فيعمل تحالفات مع الأمم الغريبة المحيطة به، ليضمن وجوده في أرضه، كان الله يتخلّى عنه ويُفرّقه. لكنّه حين كان يعرف خطيئته وجحوده ويتوب ويتّكل على إلهه وحده، كان الله يعيد هذا الشعب إلى أرضه ويكثّره فيها. هل سنعود في هذا الشرق إلى الإتّكال على إله إيماننا الأرثوذكسيّ وحده؟ الإيمان الأرثوذكسيّ، الوحيد الّذي لم يتغيّر ولم يتحوّل. ليكون لنا نصيبٌ في هذه التوبة، ويذكرنا الله في أرضنا ويحفظ البقيّة منّا، ويُكثّرنا فيها من جديد.
كما أنّ الخلاص الأبديّ لا يحتاج إلّا إلى إيمان أرثوذكسيّ وتوبة قلبيّة، هكذا أيضًا بقاؤنا في هذا الشرق لا يحتاج إلّا إلى هذين العنصرين، إيمان أرثوذكسيّ نقيّ وتوبة أرثوذكسيّة. ثبّتوا شعبكم في أرثوذكسيّته يا أساقفة الله وكهنته لكي يُثبّته الله في أرضه. لا تجعلوا الإيمان والخلاص ينحدر إلى مفهوم بشريّ اجتماعيّ بل دعوه إلهيًّا، إنّه من الربّ وإليه. لا تمزجوا أرثوذكسيّتنا المقدّسة مع كلّ تلك الانحرافات التي أنتجها كبرياء البشر. الأرثوذكسيّة هي الحقيقة وهي النور، إنّها نور للأمم التي تبحث عن الحقّ، دعوا هذا النور يشعّ للعالم. إنّ العالم يحتاج إلى هذا النور ليُبصر الإله الحقيقيّ، إنّه يحتاج إلى الحقيقة كسلّم أمينة للخلاص. الله هو الّذي وضعنا في هذا الشرق، مع وزنات روحيّة كثيرة، لنشهد للإله الحقيقيّ، فلا نطمرها، بل لنحوّل هذه الأرض التي نسعى إلى أن نثبت فيها من أرض ارتداد، إلى أرض مباركة للشهادة للحقّ وإيمان مسيحنا.