الحوار المسكونيّ عند بئر يعقوب


إعداد: نديم سلُّوم

 

ها قد وصلنا إلى الأحد الخامس من الفصح. بحسب الترتيب الليتورجي وضعت الكنيسة في هذا اليوم اللقاء الذي حصل بين الربِّ يسوع المسيح والمرأة السامريَّة (القديسة فوتيني) كما يصفه يوحنا الإنجيليّ. ما هذا الحوار الذي جرى عند بئر يعقوب؟ إنَّه حوارٌ لاهوتيٌّ بامتياز حيث يجب أن يُبنى عليه في أيّ حوار مسكونيّ. ما سنجريه الآن ليس دراسةً تحليليَّةً للنصِّ الإنجيليّ بل مقاربة بعض الأحداث في هذا اللقاء مع الحوار المسكونيّ الحقيقيّ حيث يسعى الكثيرون بالاستناد على الحوار بين الشخصيتيْن لتشويه الفكر الأرثوذكسيّ فيما يختص بهدف الحوار المسكونيّ.

 

تقع السامرة بين اليهوديَّة من الجنوب والجليل من الشمال. كان السامريون لا يعرفون سوى أسفار موسى الخمسة فقط، وكانت معظم العقائد السامريَّة مشتقَّة من اليهوديَّة، ولكن اليهود تعاملوا معهم كهراطقة. كان يسوع يريد الانتقال من اليهوديَّة إلى الجليل. يخبرنا الإنجيليّ أنَّه «كان يجب أن يمرَّ بالسامرة» (يو4: 4). طريق السامرة ليست ضروريَّة للعبور بل هناك طرق أخرى ولكن عبورها كان لهدف معيَّن كما يشرح المغبوط ثيوفيلاكتوس على أنَّ السامرة ليست مقصد يسوع بل مجرَّد ممرّ ليصل إلى وجهته. تاليًا، اللقاء مع السامريَّة لم يكن ضروريًّا ولكن المسيح أراد العبور بالسامرة واللقاء بالسامريَّة لضرورة لاهوتيَّة وهو البحث عن شعب يعبده بالروح والحقِّ، أو كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبيّ الفم «أراد أن يقتنص صيدًا روحيًّا». علم المسيح أين يذهب ومع من يتكلَّم كما يعلم الصيَّاد أين يذهب ليصطاد ونوع الفريسة التي يريدها. ما نستطيع قوله هنا إنَّ الحوار المسكونيّ ليس مقصدًا أو غايةً بل فقط ممرًّا للشهادة عن الحقِّ والبحث عن أناسٍ يشتاقون لمعرفة الإله الحقيقيّ. لا أحد ينكر أنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة بطبيعتها مُنْفَتِحة على الحوار. الله في حوار دائم مع الإنسان، وقِدِّيسو الكنيسة لم يرفضوا أبدًا التَّواصل مع العالم. يحاول القدِّيسون، الذين هم في شركة دائمة مع الله، من خلال الحوار نَقْل خبرة الحقيقة التي يعيشونها.

 

ابتدأ الحوار بين الربّ يسوع والمرأة السامريَّة على مستوى دنيويّ أي طَلَبَ المسيح من المرأة ماءً ليشرب فعارضته لأنَّها سامريَّةٌ وهو يهوديٌّ و«اليهود لا يعاملون السامريين» (يو4: 9). ولكن سرعان ما نقل الربّ يسوع الحوار إلى مستوى أعلى وأصبح نقاشًا لاهوتيًّا. بدايةً أراد يسوع أن يعطيها ماء الحياة الأبديَّة التي تنبع منه (يو4: 14)، ثمَّ انتقل النقاش إلى مكان السجود لله إن كان في أورشليم كما يقول اليهود أو على جبل جيريزيم كما يقول السامريون، أي بمعنى آخر كما يشرح المغبوط ثيوفيلاكتوس أنَّ المرأة السامريَّة تسأل المسيح عن العقائد الإلهيَّة وليس عن أمور عالميَّة كالصحَّة والمال. ولكن المسيح أجابها أنَّ «لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب» (يو4: 21) لأنَّ «الله روحٌ. والذين يسجدون له فبالروح والحقِّ ينبغي أن يسجدوا» (يو4: 24). يلاحظ القدِّيس غريغوريوس بالاماس مدى معرفة المرأة السامريَّة بالكتب المقدَّسة وكم من المؤمنين في زمننا الحاضر يجهلون الكتاب المقدَّس، ليس فقط الكتاب المقدَّس بل كلّ تقليد الكنيسة. وهذا ما يعبِّر عنه الأب جورج فلورفسكي أنَّ المشاركين في اللقاءات المسكونيَّة لا علم لهم بتقليد الكنيسة وصار العارفون بمسائل التاريخ واللاهوت يُبعَدون حتَّى أصبحت القرارات تُتَّخذ من دون الاهتمام بالعقيدة والتحديدات اللاهوتيَّة أو أيّ إلمام بتاريخ الكنيسة وتقليدها.

 

هكذا الآن بدأت المرأة السامريَّة تناقش المسيح في مواضيع عقائديَّة وطلبت منه أن يفسِّر العقائد الآبائيَّة. أتى جواب المسيح على قسميْن أنَّ «لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب» (يو4: 21) وأنَّ «الله روحٌ. والذين يسجدون له فبالروح والحقِّ ينبغي أن يسجدوا» (يو4: 24). أبطل المسيح عبادة الله عن طريق الذبائح الحيوانيَّة وحصْرِ السجود في الهيكل أو الجبل لأنَّ النعمة الإلهيَّة منتشرة في كلِّ مكان وعطيَّة الخلاص ينبغي أن تنتشر في كلِّ المسكونة، كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم. إذًا ما العبادة التي يريدها المسيح؟ هي السجود بالروح أي رفض أعمال الإنسان القديم وشهواته وإماتة أعمال الجسد بالروح لكي نحيا (رو8: 13). ولكن لا يتوقَّف الربّ يسوع فقط على السجود بالروح بل يضيف أيضًا «الحقَّ». سيظهر كثيرون يسجدون له بالروح ولكن لا يمتلكون الحقيقة، مثل الهراطقة الذين لا يؤمنون بالعقيدة الأرثوذكسيَّة أي لا يمتلكون إيمانًا مستقيمًا بالله، كما يعبِّر المغبوط ثيوفيلاكتوس. إذًا الساجدون الحقيقيُّون لله هم الذين يملكون نوسًا نقيًّا وإيمانًا مستقيمًا. كما يعطي القدِّيس غريغوريوس بالاماس تفسيرًا آخرًا أنَّ الله يُسجد له من قبل ساجدين حقيقيِّين بروحه (الروح القدس) وحقِّه (يسوع المسيح).

 

نقرأ في إكسابستيلاري العيد: «أيُّها المخلِّص القادر على كلِّ شيء المنبع ماءً للعبرانيين من صخرة صمَّاء لقد بلغتَ أرض السامرة وخاطبتَ امرأةً ملتمسًا منها لتشرب التي اجتذبتها إلى الإيمان بكَ والآن فنالت الحياة في السموات سرمدًا». توضح هذه القطعة الهدف الحقيقيّ لحوار الربِّ مع المرأة السامريَّة. لم يكن حوارًا سطحيًّا أو عقيمًا بل لاهوتيًّا حيث في نهايته اهتدت المرأة السامريَّة إلى الإيمان بالله بالروح والحقِّ. ينسى الذين يدورون في فلك المسكونيَّة أنَّ المرأة السامريَّة أصبحت في النهاية مسيحيَّةً ودُعيت باسم فوتيني أي مستنيرة وأصبحت قدِّيسة في الكنيسة. لقد جذبها المسيح عبر المحبَّة بالحقِّ للإيمان به فنالت الحياة الأبديَّة. بالنسبة لنا نحن الأرثوذكس، المحبَّة والحقّ مفهومان لا ينفصلان عن بعضهما البعض. حوارٌ عن المحبَّة من دون حقيقة هو خاطئ وغير طبيعيّ. بينما، حوار عن المحبَّة «في الحقِّ» يعني: المحاورة مع غير الأرثوذكس للإشارة الى أخطائهم وكيفيَّة إرشادهم الى الحقِّ. إذا كنتُ حقًّا أحبُّهم يجب أن أخبرهم الحقَّ بالرغم من كَوْنِه صعبًا أو مؤلمًا (من منشورات دير الباراكليتو).

 

كما قلنا، إنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة بطبيعتها مُنْفَتِحة على الحوار. كان القدِّيسون، أمثال القدِّيس مرقس الأفسسيّ، يعرضون ويشرحون الحقيقة التي ليست موضعًا للبحث. لذلك «إذا كان الحوار لا يقود غير الأرثوذكس الى رَفْض مُعْتَقَداتِهم الخاطئة وقبول الإيمان الأرثوذكسيّ، كان القدِّيسون يتوَقَّفون عن الحوار معهم» (من منشورات دير الباراكليتو). أمَّا الآن هناك توجُّه لدى العديد من المشاركين في الحوارات المسكونيَّة بالقبول بشعار «العصر الجديد» (New Age) القائلة: «آمن بما تريد، فقط لا تزعم أنَّك تملك حَصْرًا الحقيقة وطريق الخلاص». هذا ما يتعارض تمامًا مع الحوار المسكونيّ الذي أجراه المسيح مع المرأة السامريَّة. هناك حقيقةٌ واحدةٌ وطريقُ خلاصٍ واحدٌ من خلال يسوع المسيح، الإله – الإنسان، وفقًا للقول الرسوليّ: «وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نخلص» (أع 4: 12).

 

إنَّ إنجيل أحد السامريَّة هو إنجيل الإصرار على الحوار العقائديّ في اللقاءات المسكونيَّة. كلّ حوار مسكونيّ مع الآخر المختلف إن لم يُبنَ على أساس لاهوتيّ وطرحٍ للاختلافات العقائديَّة يبقى غير نافعٍ. هذا ما فعله الربُّ يسوع. طرح مسألة عقائديَّة ولم يكن حديثه من دون جدوى. إنَّ الحوار المسكونيّ الذي أجراه المسيح كان عن الحقِّ، بينما، الحوار المسكونيّ كما يُنجَز اليوم، ليس لقاءً عن الحقِّ، بل بالأحرى «إعتراف مُتبادَل». ما يجب أن يحصل هو عرض للتقليد المقدَّس والخبرة الروحيَّة الأرثوذكسيَّة المختلفة عن الغرب المسيحيّ. فقط مثل هذا الموقف الاعترافيّ سيكون قادرًا أن يجعل الوجود الأرثوذكسيّ في الحوارات مُثمرًا ومُنْتِجًا.



آخر المواضيع

ماذا حَلَّ بِكنيسة أعمال الرّسل؟
الفئة : زمن البندكستاري

الأب جيمس جرجس 2023-05-27

آلام المسيح تَغلبُ الموت.
الفئة : زمن البندكستاري

الأرشمندريت إفرام، رئيس دير الفاتوبيذي. 2022-06-11

قيامة المَسيح
الفئة : زمن البندكستاري

2022-06-01

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا