أحد جميع القدِّيسين


أحد جميع القدِّيسين

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس (1985)

نقله إلى العربية: فريق القديس غريغوريوس بالاماس

 

في مقطع الرِّسالة المقروء اليوم (عبرانيين 11: 33-40 و12: 1-2)، تكلّم بولس الرَّسول على أهميّة الإيمان. ما حقَّقَ رجالُ الله الإنجازات العظيمة على مرِّ الدُّهور إلاَّ بالإيمان. لأنَّ إيمانهم جعلَ واقعًا ما لا يُرى، أي ملكوت الله. فمن أجلِ ملكوت الله والحياة الأبديّة ضحّوا بالأمور الدنيويّة والعابرة. وذلك لقناعتهم الثَّابتة بأنَّها آنِيَّة وفانية، أمَّا تلكَ العتيدة والمرجوَّة فهي الأبديَّة والباقية.

لكن، دون الإيمان، لم يستطع القدِّيسون القيام بهذه القَفزة من هذا العالَم الباطِل، من الحياة الآنيَّة إلى الأبديَّة. لا يمكنهم أن يضحّوا بالحياة الحاضرة إن لم يكونوا مؤمنين بالله وبالحياة الأبديَّة. في هذا المقطع، يسرد الرَّسول كيف أنَّ أبرارَ العهد القديم ورؤساء الآباء والأنبياء والرِّجال العُظماء في العهد القديم كلّهم قد حقَّقوا بوساطة الإيمان جميع تلك الإنجازاتِ المُهمَّة. بالإيمان قرَّر إبراهيم أن يُضحِّي حتَّى بابنه، ولم يتخلَّ عن إيمانه. آمَنَ بثباتٍ بأنَّ الله لن يخلِف بوعوده. بَلغ إبراهيم شيخوخةً عميقة، كان عمره مئة سنة حين رُزق بابنه اسحق الَّذي كان ابن الوعد الإلهيّ. لم يدع فكره يتشوَّش: "وكيف أُنجِب طفلاً آخر بعد؟ لقد أعطاني الله وعودًا كثيرة، إذًا دعني لا أضحّي بإسحق"، إنَّما تأهَّبَ ليضحِّي بابنه بيدَيه. هذا هو الإيمان بأمِّ العَين، وهذه هي الثِّقة بالله.

كذلك، يحقّق ذلك جميع المسيحيِّين الَّذين يجاهدون على مرِّ الأزمان كي يعيشوا حياة مسيحيَّة، وذلك إذا كان لهم مثل هذا الإيمان. إنَّ القاعدة للابتداء ومرساة الرَّجاء لهي الإيمان. يجاهد الرَّاهب مندفعًا من إيمانه بالله وبالحياة الأبديَّة. يؤمِن أنَّ بلوغَ محبّةِ الله والحياة الأبديّة يستحقّان التَّضحية بمُتعِ هذا العالم وملاذِّه، وحتَّى البريئة منها والَّتي لا ينهَى عنها ناموس الله، تراهُ يضحِّي بتلك كذلك. لأجل ذلك يمكننا اعتبار السِّيرة الرَّهبانيّة، حالها حال الحياة المسيحيّة، إحدى إنجازات الإيمان.

أثناء سَعيِنا على درب الكَمال، وجرَّاء ضعفنا البَشريِّ، من الطَّبيعيّ أن يصيبنا الجُبن بين الحين والآخر، وأن نسقط أحيانًا أو ننحَني. لهذا، يقول لنا الرُّوح القُدس اليوم، من خلال بولس الرَّسول، في مُستهلِّ الإصحاح الثَّاني عشر من الرَّسالة إلى العبرانيين: "لذلك نحنُ أيضًا إذ لنَا سحابةٌ مِنَ الشُّهود مقدارُ هذه مُحيطَةٌ بِنا لنَطْرَحْ كُلَّ ثِقلٍ والخَطيئة المُحيطَة بنا بِسُهولةٍ لنُحاضِر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا. نَاظِرينَ إلى رَئيسِ إيمانِنا ومُكَمِّلِهِ يَسوع." إذًا، لدينا لا شَهيدَان ولا ثلاثة ولا مئة ولا آلاف الشُّهود في إيماننا، بل سحابة بأكملها، سحابة من حشدِ شهودٍ لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ ليسوا بعيدين عنَّا، لذا فلنُقلِّدهم. لم يصِف السَّحابة باستخدام لفظ "موضوعة" بل "مُحيطة بنا": يُحيطُ بنا القِدِّيسون والشُّهداء والنُّسَّاك، وأصفياء الله منذ جميع الدُّهور. إنَّهم داخل الكنيسة مثلما نحن بداخلها، إذاً نحن فيهم. وما دام حشود من الشهداء يحيطون بنا، فلنتَّخذهم النَّموذج لنا، ولِنُلقِ "الثِقلَ كلّه". وأيَّ ثقلٍ يجب أن نطرح عنَّا؟ إنَّه ثِقل الفِكر الجسدانيّ، وثقل الرَّغبة بأن نحيا حياة الحسّ لا الرُّوح، حياة الملاذِّ الخارجيَّة لا حياة الاكتمالِ الدَّاخليِّ والشَّركة مع الله.

أيضًا لِنبتعد عن "الخطيئة المُحيطَة بِنا بِسُهولةٍ"، يقصد هُنا الخطيئة الَّتي يقع بها المرءُ بسهولة. أي حين يزلُّ الإنسان بيُسرٍ ومرارًا كثيرة دون الوَعي. إذًا، فلنجاهد أن ننفض عنّا مثل هذه الخطيئة وثِقل الجسديَّات كلِّه، متَّخذين حُلفاء لنا ذلك الحشد الكبير كلّه مِن الشُّهداء والقدِّيسين، وقَبلَ كُلّ شيء: "ناظرين إلى رئيس إيمانِنا ومُكَمِّلِهِ يَسوع". أي أن نحدِّق إلى الرَّبّ يسوع، رئيس إيماننا. وماذا صنعَ رئيسُ إيماننا؟ يقول بولس الرَّسول هنا: "الَّذي مِن أجلِ السُّرورِ المَوضوعِ أَمامَهُ" أي كي لا يخسر الرَّبّ فرحةَ خلاصِنا، فضَّل الصَّليب "مُستهينًا بالخِزي"، أي استهانَ بعار صَلبِهِ. وقد كان من العار العظيم أن يُصلَب أحدٌ حينذاك. كان يُصلبَ أكثر الناس رداءةً وأكثرهم شرًّا في ذلك الزَّمان، فرفعوا المسيح ربَّنا على الصَّليب بمنزلة أسوَءِ إنسان على الإطلاق! أمَّا الرَّبّ فاستهانَ بعار المَوتِ مصلوبًا. ولِمَاذا هذا كلّه؟ كي يظلَّ وفيًّا لمشيئة الله. كذلك لم يُعِر اهتمامًا "لمُقاومَة" البَشَر له.

فيقول لنا بولس الرَّسول: ما حالُنا نحنُ إذًا؟ نحنُ لم نتعَرَّض لمُقاومةٍ مِن البَشَر مثل هذه، ولسنا مُطالَبين بتَقديم دَمِنا مثل حالِ الشُّهداء، بل يلزمنا القيام بجهاداتٍ أبسط ولا تكلِّفنا الدَّم. أفلا يتوجَّب علينا القيام بهذا الجهاد؟

ها إذًا اليوم، في تذكار جميعِ القدِّيسين، تكمنُ الدَّعوَة لنا جميعًا، إلى المسيحيّين والرُّهبان، لأن نُجدِّد غَيرتَنا وقرارنا بالجهاد. فإنَّه بلا جهاد لا يخلص مؤمن واحدٌ ولا حتّى راهب. خلُص القدِّيسون بعدَ جهادٍ كثير. فبالجهاد سوف نخلص نحن أيضًا. قال القدِّيس يوحنَّا الذهبيّ الفَم -في مديحٍ لجميع القدِّيسين المُستشهَدين في العالَم - كان هؤلاء يحترقونَ في أتّون النَّارِ ويحتملون. فإذًا، احتمِلْ أنتَ لظى الشَّهوة الجسديَّة ولا ترضخ لها. تجاهَلَ هؤلاء الوالدين والإخوة والزوجة والأطفال وكذلك مقتنياتهم، وتقدَّموا إلى موت الشَّهادة، فإذًا، تجاهل أنتَ أيضًا الرَّغبة بالأمور الَّتي لا يريدها لكَ الله. انظر إلى ما فعَل القدِّيسون الشُّهداء في حدٍّ مُطلق -فإنَّ كلَّ ما فعل قدِّيسونا الشّهداء كان بالحدّ المُطلَق- وَقُمْ بِفعله أنتَ أيضًا بحدٍّ نِسبيٍّ، فتُجاهد جهادَ القدِّيسين الشُّهداء وتلقى مِثلَ كرامتهم وإكليلهم.

فاليوم، فيما تعرِضُ لنا الكنيسة هذه النَّماذج، دعا الرَّبّ أخانا الرَّاهب ل. إلى السِّيرة الرّهبانيّة. فكيف لا تُفعَمُ النَّفس عِرفانًا لله؟ وهو الَّذي، مِن وسَطِ جيلٍ فاسقٍ ومُنحرف، دعا أخانا كي يعيشَ السِّيرة الملائكيَّة. أصبح النَّاسُ يعيشون في هذا العصر أكثر وأكثر مِثلَ البهائم، متناسين أصلهم الإلهيّ وأيّ غايةٍ إلهيّةٍ ساميةٍ هم مدعوُّون لبلوغها. لا بل ويعلِّمون أنَّ أصل الإنسانِ بهيميّ! كيف لا يشكُر المرءُ اللهَ وكيف لا يتأثَّر حتَّى صميم القَلب حين يرى نفوسًا شابَّةً تبتغي أن تحيا السّيرة الملائكيَّة، وسط عصرٍ تَشدُّه الحياة البهيميَّة! إذًا، دعونا نشكر الرَّبّ على هذا ولنتوسّل إليه، بكلِّ ما أوتيت نفوسنا من القوَّة، أن يُشدِّد أبانا الرَّاهب ل. الَّذي "ارتأى إلى عملٍ مُباركٍ، وأن يكمله حتَّى النِّهاية" (انظر خدمة الإسكيم الملائكيّ العظيم، كتاب الأفخولوجي الكبير)

سمعنا اليوم خدمةَ الإسكيم العظيم المقدَّس وارتعدنا خوفًا، فإنَّه أمرٌ حسنٌ أن يتَّبع المرء السِّيرة الرّهبانيّة، لكنّه في خطر؛ خطر على الرَّاهب أن يبتدئ بنشاط ومن ثمَّ يتقاعس ويقع في الكسل والتَّهاون وينسى حماسته الابتدائيّة. أيضًا هو بخطر أن يمكث في الدَّير، لكنّه يعيش أيَّامه باستهتار. إذًا، هناك أخطار تحدق بنا جميعًا، فيجب أن نجاهد باستمرار ألاّ نفتحَ للشرِّير ثَغراتٍ يدخل منها، فيضرب ويجرح ويميت نفوسَنا الخالِدة، نفوسنا الَّتي هي عرائس المسيح، مَثلما سمعنا قبل قليل في خدمة الإسكيم الملائكيّ.

قبل أيَّام قليلة، قرأتُ قصَّةً حقيقيّة ومعروفة. ذهب الأنبا سَرابيون إلى روما، وسمع أنَّ ناسكةً حبيسة تحيا في تلك الأنحاء؛ كانت بتولاً قد اختارت أن تعزل نفسها داخل قلاّيةٍ، دون أن تخرج أبدًا من هناك. فذهَب لمقابلتها وقال لها:

  • لماذا تجلسين ههنا؟ فأجابته

  • لست أجلس، بل أتقدّم (أمشي)

  • وإلى أين تسيرين؟

  • نحوَ إلهي.

  • أحيّةٌ أنتِ أم مَيتة؟

  • "أعتقد أنّي، بنعمة الله، قد مُتُّ عن العالَم، حتَّى أقدر أن أعيش بالله."

ليتنا نعيش جميعًا ما عاشته هذه النَّاسكة. ألاّ نكون قابعين ههنا في مكاننا، إنَّما سائرين قُدُمًا نحو إلهنا عبر إماتتنا اليوميّة للأهواء وأفكارها، وأن نسلُك باعتبارنا أمواتًا عن العالَم وأحياءً لله.

نتمنَّى للجميع بركة الله وأن يؤهِّلنا جميعًا لملكوته السَّماويّ، فنكون متّحدين أبديًّا بربّنا الإله المتجسِّد وبأُمِّنا الفائقة القداسة وجميعِ القدِّيسين الَّذين نقيم تذكارهم اليوم.



آخر المواضيع

أحد جميع القدِّيسين
الفئة : زمن البندكستاري

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس 2025-06-14

حول العنصرة المقدَّسة
الفئة : زمن البندكستاري

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس 2025-06-07

عيد نصف الخمسين
الفئة : زمن البندكستاري

الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس 2025-05-13

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا