كيف تجعل حياتك صلاةً غير منقطعة


كيف تجعل حياتك صلاةً غير منقطعة

الشيخ بترونيو (تاناسي)

نقلته إلى العربيّة: جوي موسى

 

في 27 نيسان 2023، كُشف عن رفات ناسك التقوى المعاصر، رئيس دير اسقيط برودرومو الروماني الآثوسيّ، الشيخ بترونيو، الذي رقد في الربّ قبل اثني عشر عامًا في 22 شباط 2011. الشيخ بترونيو هو أحد المُعترفين الروحيّين الرومانيّين المُقتَرَح إعلان قداستهم لعام 2025. نُورد في هذا المقال نصيحة الشيخ حول عمل الصلاة.

 

- أَخبِرْنا عن الصلاة غير المنقطعة.

يقول الآباء القدّيسون إنَّ الصلاة هي "حياةٌ للنفس". كما أنَّ الجسد لا يبقى على قيد الحياة من دون هواء وبحاجة إلى التنفّس باستمرار، هكذا لا تستطيع النفس أن تعيش لحظة واحدة من دون التواصل مع الله؛ عليها أن تتّحد معه على الدوام وتُصلّي بلا انقطاع. لذلك، يوصي الرسول بولس أهل تسالونيكي ومن خلالهم جميع المسيحيّين: «صلّوا بلا انقطاع» (1 تسالونيكي 17:5). يحاول المسيحيّون على مرّ القُرون إتمام هذه الوصيّة. لكن بما أنَّ المسألة ليست بهذه البساطة، يُعلِّمنا آباء الكنيسة كيفيّة الصلاة بلا انقطاع.

يقول القدّيس مكسيموس المُعترف واصفًا حديثَ أخٍ مع أبيه الروحيّ:

«وقال الأخ: ‘كيف على الذهن أن يصلّي بلا انقطاع؟ في النهاية، نحن ننصرف إلى الكثير من الأفكار والتخيّلات عندما نُرنِّم أو نقرأ أو عندما نلتقي بالآخرين وفي أثناء الخدمة.‘ فأجابه الشيخ: ‘لا وصايا مستحيلة في الكتاب المقدّس، فالرسول بولس كان أيضًا يُرنِّم ويقرأ ويخدم، لكن مع ذلك كان يُصلّي بلا انقطاع. الصلاة المتواصلة كناية عن إبقاء ذهننا ملتصقًا بالله بوقار ومحبّة، ووضع رجاءنا عليه دائمًا، والاتّكال عليه في كلّ شيء، مهما كنّا نفعل ومهما حدث.‘»

الصلاة المتواصلة الحقيقيّة هي أوّلًا وقبل كلّ شيء شوق النفس إلى الله باستمرار، وليست بإكثار الكلام المُنَمَّق.

يحيا الإيمان الحقيقيّ بالله من خلال هذه الصلاة المليئة بالرجاء المُطلَق. كان القديس بولس الرسول يتمتّع بهذه السَّجِيّة، فيقول: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ ٱلْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ… فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لَا مَوْتَ وَلَا حَيَاةَ، وَلَا مَلَائِكَةَ…» (رومية 8: 35-38). وأيضًا: «مُكْتَئِبِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَضَايِقِينَ. مُتَحَيِّرِينَ، لَكِنْ غَيْرَ يَائِسِينَ. مُضْطَهَدِينَ، لَكِنْ غَيْرَ مَتْرُوكِينَ. مَطْرُوحِينَ، لَكِنْ غَيْرَ هَالِكِينَ. حَامِلِينَ فِي ٱلْجَسَدِ كُلَّ حِينٍ إِمَاتَةَ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، لِكَيْ تُظْهَرَ حَيَاةُ يَسُوعَ أَيْضًا فِي جَسَدِنَا.» (2 كورنثوس 4: 8-10).

في هذه الحالة، صلّى الرسول بلا انقطاع، لأنَّه وضع رجاءه على الربّ في كلّ ما كان يصنع وكلّ ما كان يحدث له.

يُعلِّمنا القدّيس باسيليوس الكبير في أحاديثه (dialogues) وعظاته كيفيّة اكتساب الصلاة غير المنقطعة:

«الصلاة هي التماس المؤمن من الله اقتناء بعض الصَّلاح. ليس بالضرورة أن تتمّ هذه الطلبة بالكلمات، ولا أعتقدُ بأنَّ الله يحتاج إلى أن نُذَكِّره باحتياجاتنا عن طريق الكلام، لأنّه يعلم ما هو جيِّدٌ لنا، حتّى لو لم نطلبه منه.

ليس من الضروريّ أن نصلّي باستخدام الكلمات- من الأفضل تعزيز قوّة الصلاة بإرادة النفس الحرّة والأعمال الفاضلة التي تمتدّ طيلة حياتنا. فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا ما فافعلوا كلّ شيء لمجد الله (1 كورنثوس 31:10). عندما تجلس لتناول الطعام، صلِّ؛ عندما تأخذ خبزك لتأكل، اشكر الذي أعطاك إيّاه؛ عندما تشرب الخمر لتشديد جسدك، تذكّر الله الذي منحك هذه العطيّة لإفراح القلب والتخفيف من الأمراض. عندما تأكل حتّى الشّبع، لا تنسَ المُحسِن إليك؛ عندما ترتدي ثوبك، اشكر الذي أعطاك إيّاه؛ عندما ترتدي لباسك، لتتضاعف محبّتك لله الذي أعطانا لباسًا مناسبًا لِفَصلَيّ الشتاء والصيّف- لباسًا يحفظ حياتنا ويُغطّي عَورَتَنا.

عندما ينقضي النهار، اشكر الذي أعطانا الشّمس لنتمكّن من إتمام أعمالنا اليوميّة؛ والذي أعطانا النّار لإنارة ظلمة اللّيل وخدمة احتياجاتنا اليوميّة الأخرى.

لعلّ اللّيل يعطيك أسبابًا أخرى للصلاة. عندما ترفع عينيك إلى السماء وتُعاين جمال النجوم، صلِّ واسجد للربّ، مُبدِع الكون الفائق، الذي صنع كلّ الأشياء بحكمةٍ. عندما ترى أنَّ كلّ المخلوقات خلدت إلى النوم، اسجد مرّة أخرى للربّ، الذي سمح لنا على خلاف إرادتنا، بتعليق عملنا لكي ننام ونرتاح قليلًا وبالتالي نُجدِّد قُوَّتنا لمواصلة عملنا من جديد.

لا تُكَرِّس ليلتك كلّها للنوم؛ لا تجعل نصف عمرك باطلًا بالسماح لنفسك بالنوم، بل قَسِّم ليلتك بين النوم والصلاة. حتّى الأحلام تُعطيك فرصة للتأمّل في الإيمان. في معظم الأوقات، تكون الصّور في أحلامنا نتيجةً لمخاوفنا في أثناء النهار. ما يُقلقنا خلال النهار، يُوافي أيضًا إلى أحلامنا.

بممارسة ذلك، سوف تصلّي بلا انقطاع. لا تصلّي بالكلمات فحسب، بل بإتحاد حياتك كلّها بالله، حينها سوف تكون حياتك صلاةً متواصلة وغير منقطعة.»1

 

- أَخبِرنا عن الصلاة المستمرّة التي تأتي من جرّاء ترداد: "يا ربّي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ."

هذه هي الصلاة الهدوئيّة أو صلاة النسّاك، لأنَّ الرهبان الذين نبذوا العالم وفرّوا منه ليكونوا ملتصقين بالله على الدوام، هم الذين يردِّدون هذه الصلاة بشكل خاصّ. لهذه الغاية، وجدوا صلاةً قصيرة: "يا ربّي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ."

كلّ راهب يأخذ الاسكيم الملائكيّ، يُوصى بتلاوة هذه الصلاة بغير انقطاع، ويُعطى مسبحة صلاة لتلاوتها. غير أنَّ الرهبان لهم في الدير الحياة الليتورجيّة والخدم الكنسيّة اليوميّة، كما أنّهم يعملون من أجل حسن تدبير الشّرِكة. لذلك، أصبحت الصلاة غير المنقطعة عمل النسّاك الذين يعيشون حياة منعزلة وبسيطة ونسكيّة، الذين يتّخذون الصلاة بلا انقطاع عَمَلَهم الأساسي. لقد واجه النسّاك بعض الصعوبات عند ممارسة هذه الصلاة، لذلك، وضعَ بعض الآباء الذين نجحوا في اقتنائها، فنًّا روحيًّا- وسائل للتغلّب على هذه الصعوبات.

نجدُ الكثيرمن هذه الوسائل في كتاب الفيلوكاليا، عند القدّيس نيكيفوروس الناسك وغريغوريوس السينائي وسمعان اللاهوتيّ الجديد وغيرهم. من يرغب في ممارسة الصلاة غير المنقطعة، عليه أوّلًا اكتساب حالة روحيّة معيّنة وضمير نقيّ تجاه الله والقريب والأشياء: تجاه الله، بعدم القيام بأيّ شيء لا يرضيه؛ تجاه القريب، بمعاملته كما نريد أن نُعامَل؛ تجاه المادّة، من خلال الزّهد في كلّ شيء: في الطعام والشراب واللِّباس والإنفاق على ما هو ضروريّ.

افعل كلّ شيء كأنّك واقفٌ أمام الله، آنذاك تصل إلى اللاهوى، أي أن تكون متحرِّرًا من كلّ هوى. لن تبدأ بالصلاة بلا انقطاع إلّا عندما تكتسب كلّ ذلك.

ممارسة الصلاة غير المنقطعة ليست بهذه السهولة حتّى بالنسبة إلى النسّاك، وهي أقلّ سهولة بالنسبة إلى الناس الذين في العالم. يستطيع الإنسان في العالم أيضًا ممارسة صلاة النسّاك: "يا ربّي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطئ"، لكن لا يعني ذلك أنّه أصبح ناسكًا أو هدوئيًّا أو أنَّ الهدوئيّة انتقلت إلى العالم - فسيكون هذا أسهل طريق للناس اليوم، كما قال البعض. يُمارس المسيحيّون في العالم أيضًا صلاة النسّاك، لكن على قدر ما هو ممكن في العالم، مع النتيجة النسبيّة المؤاتية لذلك.

في العالم الروحيّ قولٌ في هذا الصدد: «العظيم ليس عظيمًا بالنسبة إلى الصغير، والصغير ليس صغيرًا بالنسبة إلى العظيم.» المعنى واضح: الصلاة الهدوئيّة سهلة وقصيرة، لكنّها ليست بسيطة بالنسبة إلى النسّاك؛ بالمقابل، صلاة النسّاك عظيمة بالنسبة لهم، ولكنّها بسيطة بالنسبة إلى إنسان في العالم.

 

- كيف نقتني ضميرًا سليمًا تجاه الأشياء؟

أبدعَ الله الأشياء ولا يمكننا العيش من دونها. فبعضها يخدمنا كطعام، وبعضها الآخر يخدم احتياجاتنا الأخرى. نستخدم الأشياء كلّ حياتنا، لكنّها لم تُخلَق للمنفعة الجسديّة فحسب، بل الروحيّة أيضًا. للأشياء لغتها الخاصّة، إن فهمناها، نتَعلَّم العيش بطريقة روحيّة صحيحة.

يشرح القدّيس مكسيموس المُعترف بالتفصيل كيفيّة فهمها، في الجزء الثالث من الفيلوكاليا2. وضع الله في الإنسان الحاجة إلى الطعام3، على الرغم من أنَّه كان باستطاعته خَلقَه من دونها. خلق الله الإنسان ليعيش من الأشياء الأدنى حتّى يفهم أنَّه ليس كائنًا من تلقاء ذاته، وأنَّه لا يعيش من ذاته. لم يخلق الإنسان ذاته، فهو يعيش بفضل الأشياء الأدنى منه. أجبرَتهُ الحاجة إلى الطعام على التواضع، وإدراك أنّه ليس كما اعتقدَ لوسيفوروس نفسه، مُتوهِّمًا بكبرياء بأنّه سيصعد إلى السماء بنفسه ليصبح أرفع من الله.

ليس الإنسان جسدًا فحسب، إنّما نفسٌ أيضًا، وكما أنَّ الجسد يحتاج إلى طعام، هكذا تحتاج النفس إلى الله والطعام الروحيّ. غذاء النفس هو الصلاة والتأمّل بالإلهيّات. لأنّه كما أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون هواء أو طعام للجسد، هكذا لا يستطيع أن يعيش من دون طعام إلهيّ للنفس. عليه أن يكون على تواصل دائم مع الله من خلال الصلاة غير المنقطعة. خلق الله الإنسان لهدف، وإذا فهمنا لماذا خلقه الله بهذه الطريقة، نفهم عندئذٍ كيف نحيا حياةً روحيّة.

دنّس الإنسانُ الطبيعةَ بعدم إدراكه للجانب الروحيّ. لم يستثمرها كما ينبغي، بل أفسدها بالسلطان الذي له عليها، والآن، الطبيعة تنتقم منه. بعدم امتلاكه للفهم الصحيح، أفرط في استغلالها في سبيل الجسد وحده؛ لذلك، كلّ الأخطاء التي ارتكبها بحقّها عادت عليه بالخراب.

على الإنسان الاعتدال دائمًا في استهلاكه للطعام والأشياء. على سبيل المثال، التلفاز ليس مفيدًا للإنسان، فهو ليس ضروريًّا. كون الإنسان عاش لمدّة ألفيّ عام من دون تلفاز، فهذا يعني أنَّ التلفاز ليس حاجة فعليّة للإنسان، إنّما حاجة وهميّة ومُختَلَقة. إنّني أحتاج لتغطية جسدي، لكن بِرِداء بسيط، وليس بِرِداء مصنوعٍ من حريرٍ باهظ الثمن.

الاعتدال أمرٌ ضروريٌّ جدًّا. أرتدي ملابس زهيدة الثمن، فهي لا تلفت الانتباه كثيرًا. أُنفق بكمّية أقلّ، فأحظى بالمزيد من الوقت للأمور الروحيّة. الذين يعيشون في الاعتدال هم أكثر صحّة من أولئك الذين يعيشون في التّخمة.

 

https://orthochristian.com/153683.html

 

1. St. Basil the Great, Dialogue 5: In Memory of the Martyr Julitta

2. في الفيلوكاليا الرومانية، يحوي الجزء الثالث أسئلة ثالاسيوس ال65 للقديس مكسيموس.

3. بتعبير أكثر دقّة، خُلِقَ الإنسان بحاجة للطعام بعد سقوطه في الخطيئة. لقد خُلِقَ الإنسان بدون أي حاجات جسديّة، ولم يكن ليموت طالما لم يخطأ. يعلّم القديس مكسيموس في Ambiguum 8:«إن الله، حالما سقطت البشريّة… قد أعطى الجسدَ قابليّة المُعاناة، وخبرة الفساد، والانحلال الكامل – كما يظهر عندما غطّى الله الجسد بأقمصة جلديّة.»



آخر المواضيع

عظة في إنجيل الإيوثينا الحادية عشرة (يوحنا21: 14 - 25)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-04-04

عظة في إنجيل الإيوثينا العاشرة (يوحنا21: 1 - 14)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-29

عظة في إنجيل الإيوثينا التاسعة (يوحنا 20: 19 - 31)
الفئة : مواضيع متفرقة

الميتروبوليت إيروثاوس فلاخوس 2024-03-22

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا