خمسةُ أسبابٍ سمحَ بها الله لِظُهورِ الشُّهداءِ الجُدُد خلالَ الاحتلالِ التّركيِّ

خمسةُ أسبابٍ سمحَ بها الله لِظُهورِ الشُّهداءِ الجُدُد خلالَ الاحتلالِ التّركيِّ
الأرشمندريت جاورجيوس كابسانيس الرّئيس السَّابق لدير الغريغوريُّو في جبل آثوس.
نقلَها إلى العربيَّة: الشَّمَّاس مكسيموس سلُّوم
لِمَ كشفَ اللهُ عن القِدِّيسِينَ الشُّهداء الجُدُد خلال سنواتِ الاحتلالِ التُّركيّ؟
بحسبِ القِدِّيسِ نيقوديموس الآثوسيّ، عاشِقِ الشُّهداء، هناك خمسةُ أسبابٍ سمحَ بها اللهُ أن يكشفَ عن القِدِّيسينَ الشُّهداءِ الجُدُدِ في العصرِ الحديثِ. تُظهِرُ هذه الأسبابُ الأهمِّيَّةَ الكبرى لاعترافِ الشُّهداءِ الجُدُدِ.
أوَّلاً: من أجل إعادة إحياء الإيمان الأرثوذكسيّ بالكامل.
يجد المسيحيُّون المعاصرون، الَّذين ضَعُفَ إيمانُهم الرّاسخ نتيجةَ الإلحادِ، من جِهةٍ، أو مرورِ الزَّمنِ من جهةٍ أُخرى؛ في الشُّهداءِ الجُدُدِ تأكيدًا لإنجازات الشُّهداءِ القُدامى. والآن يَرَون بِأُمِّ أعينِهم الشُّهداءَ الجُدُدَ، الَّذين كانوا يومًا-ما- أقاربَهم أو أصدقاءَهم أو مَعارِفَهم، يتحمَّلون عذاباتٍ مماثلةً لتلكَ الَّتي نالها الشُّهداءُ القدامى من دونِ خوفٍ أن «يظهروا مجددًّا في العالم كأنَّهم جاورجيوس الثّاني، أو ديمتريوس الثّاني، أو ثاودوروس الجديد، لا بسبب تَشابُه الأسماء فحسب، بل أيضًا بسبب تَشابُهِ طريقِ الاستشهاد».
لا يزالونَ يجدِّدون في قلوب مسيحيّي اليوم كِرازاتِ الرُّسُل القِدِّيسين، ويجعلون الإنجيل مُقنِعًا ويؤكِّدُونَ ألوهيَّةَ يسوع المسيح، الَّذي هو مساوٍ لأبيه الَّذي لا بدءَ له ولروحِه المُحيِي، ويكرزون بالسِّرِّ العظيم للثَّالوث القدُّوس، ويختمون إيمان المسيحيِّين الأرثوذكسيّ بأكمله، لا بالكلام فقط، «بل بالأحرى بكلِّ العَذاباتِ الجهنَّميَّة الّتي احتملوها، وبهذا الاستشهادِ والدَّمِ نَفْسِهِ».
ثانيًا: لا عُذرَ بسببِهم للكافرِينَ في يومِ الدَّينونةِ.
ما هو الجوابُ الَّذي سيقدِّمُه غيرُ المؤمنِينَ لله الَّذي سمع اعترافَ الشُّهداءِ الجُدُد القِدِّيسينَ، ورأى تضحيتَهم ومحبَّتَهم للمسيح والآياتِ والمعجزاتِ الَّتي صاحبَت استشهادَهم؟ لقد «أشفق الشُّهداءُ الجُدُد القِدِّيسون على هلاكِ غيرِ المؤمنِينَ، فسارعوا إلى الاستشهادِ وكرزوا لهم بالحقِّ، معلِّمين إيَّاهم أن يتركُوا الظُّلمَةَ الَّتي هم فيها، وأن يسرعُوا إلى نورِ التّقوى والإيمانِ بالمسيحِ، لكي لا يُدانوا في نارِ الجحيمِ الَّتي لا تُطفأُ». لكنَّهم، ولأنَّ بصيرتَهم قد أُعميت بسبب سيِّد ظلمةِ هذا الدَّهر وبسبب شهواتِهم أيضًا، لم يستطيعوا أن يرَوا أو يقبلُوا حقيقةَ الإنجيل. لذلك فالربَّ سيقول لهم، بطريقتِهِ الخاصَّةِ، في يوم الدَّينونةِ: «لو لم أكنْ قد كلَّمْتُكُم من خلال هؤلاءِ الشُّهداءِ، لمَا كانَت لكم خطيئةٌ، وأمَّا الآن فليسَ لكم عذرٌ لخطيئتكم.»
ثالثًا: هؤلاءِ الشُّهداءُ الجُدُدُ هم مجدُ الكنيسةِ الشَّرقيَّةِ وافتخارُها، وتوبيخٌ للأشرارِ.
لقد شَمَتَ بنا الغربيّون غيرُ الأرثوذكسِ، إذ كانُوا يعيِّرُون الكنيسةَ الشَّرقيَّة بأنَّها لم تُقدِّم قدّيسًا أو شهيدًا جديدًا بعد الانشقاقِ. لكن الشُّهداءَ الجُدُدَ لا يقلُّون شأنًا عن الشُّهداءِ الأقدمينَ فقط، بل يفوقونَهم في ناحيَةٍ معيَّنةٍ، «لأنَّ أولئكَ جاهدوا ضدَّ الوثنيَّةِ وعبادةِ الأصنام، وهي ضلالةٌ واضحةٌ يصعبُ على العقلِ السَّليمِ أن ينخدعَ بها، ومعَ ذلك جاهدُوا أيضًا ضدَّ الكافرِينَ، أتباع التَّوحيدِ بالشَّخصِ الواحدِ، وهي ضلالةٌ خفيَّةٌ يسهل أن تخدعَ العقلَ بسهولةٍ».
فالكنيسة الأرثوذكسيَّة تَلِدُ باستمرارٍ قدِّيسِينَ وشهداءَ جُدُدًا، لأنَّها متَّحدَةٌ بعريسِها، المسيحِ، والرُّوح القدس هو مرشدُها. تَلِدُ قدِّيسِينَ يُرضون الله، ويمجِّدُهم اللهُ بالآياتِ، لأنَّها مقدَّسةٌ ومَرْضِيَّةٌ لدى اللهِ، وتحملُ في داخلها خزينَةَ النِّعمةِ الإلهيَّةِ للرُّوحِ القُدُسِ. لذلك فإنَّ تعاليمَها أيضًا حقيقيةٌ وأرثوذكسيَّةٌ: «فكما يكونُ الابنُ، تكون الأمُّ وكما تكون الثَّمرةُ، يكون الشَّجَرُ، وكما تكونُ النتائجُ، تكون الأسبابُ».
رابعًا: هؤلاءِ الشُّهداءُ الجُدُدُ هم مثالٌ في الصَّبرِ لجميعِ الأرثوذكسِ المُستَعبَدين تحتَ نيرِ الأسْرِ.
لقد كانَت معاناةُ الأرثوذكس المُستعبَدين لا توصفُ، وكان القَمعُ مستمرًّا ولا يُحتَمَلُ. فقد كانَ المَغلوبُونَ يُدفَعُون نحوَ الإسلامِ، لأنَّه كانَ يعني التَّتريكَ والتَّنكُّرَ للهويَّةِ اليونانيَّةِ. ومن خلالِ مقاومتِهم لِعُنفِ الظَّالمين ورغبتِهم في تحويلِهم إلى الإسلامِ، تشدَّدَ الشُّهداءُ الجُدُدُ القِدِّيسُونَ وقدَّمُوا مثالاً لجميعِ الشّعوبِ الأرثوذكسيَّةِ على احتمالِ الاضطهادِ وأَلاَّ يُصبِحوا أَتراكًا.
كلُّ شهيد جديد هو حصنٌ مَنيعٌ في وجه طوفانِ الأسْلَمةِ والتَّتريكِ. ولولا الشُّهداءُ الجُدُدُ، لكان من المَشكوكِ فيه أن تُحفَظَ الأرثوذكسيةُ والهيلّينيّة. ويتابع القِدِّيسُ نيقوديموس في تقديم الشُّهداءِ الجُدُدِ القِدِّيسِينَ وكأنَّهم يخاطبُون المسيحيِّينَ المُضطَّهدِينَ:
«يا إخوتَنا المسيحيِّين، يا أحبَّتَنا الَّذين تشتاقُ إليهم قلوبُنا، يا شعبَ ربِّنا يسوعَ المسيح المُختارَ والمَحبوبَ، خذوا منَّا، نحن إخوتَكم، مثالاً على الصَّبرِ في الضِّيقاتِ التي تُجرَّبُون فيها. نحنُ الَّذين احتمَلْنا بشجاعةٍ، من أجلِ المسيحِ، شتَّى أنواعِ العذابِ من غيرِ المؤمنِينَ، قد ورثْنا الملكوتَ الأبديَّ، وانضَمَمْنا إلى جماعةِ الشُّهداءِ القِدِّيسِينَ القُدماءِ. وأنتم، إذا صبرْتم بشكرٍ من أجلِ اسم المسيحِ، وتَحمَّلْتُمُ الجلْدَ، والسُّجونَ، والسَّلاسِلَ، وأعمالَ العبوديَّةِ، والخسائرَ، والضَّرائبَ الباهظةَ، وسائرَ أنواعِ العذابِ الَّتي يوقِعُها عليكم مضطَّهِدُوكم اليومَ، فأنتم أيضًا تُعتَبَرون شهداءَ باختيارِكُم، مقرَّبينَ إلى اللهِ، لأنَّ القِدِّيسَ يوحنا الذهبيّ الفم الإلهيّ يقول:«ليسَ ما يتحَمَّلُهُ المرءُ من عذابٍ هو ما يحدِّدُ شهادتَه، بل النِّيَّة. فليس من يُقطَعُ رأسُه شهيدًا بالضَّرورة، بل النِّيَّة هي التي تُظهرُ أنَّه شهيدٌ، حتى وإن لم يتعرَّضْ للعذابِ». (تفسير المزمور 127).
حينَ تَسْنَحُ الفرصةُ، سَوفَ تُحسبون بينَ الشُّهداءِ، وبعدَ الموتِ ستكُونُون معنا، وتعيشُونَ في مكانٍ مُشرِقٍ وفسيحٍ، في مكانِ فرحٍ وراحةٍ... نُعلِمُكُم، أيُّها الإخوةُ، أنَّهم لا يعاقبُونَكم بالضَّرائبِ الباهظةِ وسائرِ الشُّرورِ لهدفٍ آخرَ سوى أن يُشعِروكُم بالضَّجرِ وتفقدُوا صبرَكم، فتنُكِروا إيمانَكم وتقبلُوا ديانتَهم الخاصّةَ؛ فبما أنَّكم تعلمُون غايتَهم، فاحذرُوا، يا إخوتَنا الأحبَّاءَ، احذرُوا، من أجل محبَّةِ اللهِ ومن أجل خلاصِ نفوسِكم، لئلّا يسلبوكم كنزَ إيمانِكم المقدَّس، ذلك الكنزُ الَّذي لا يستحقُّه العالمُ كلُّه، بكلِّ أمجادِه ورفاهيّتِه وممالِكِه.»
خامسًا وأخيرًا: هؤلاءِ الشُّهداءُ الجُدُدُ حافِزٌ لجميعِ المسيحيِّينَ الآخرِينَ ليقتدُوا بهم من خلال أعمالِهم، ولا سيَّما أولئكَ الَّذين أنكرُوا المسيحَ سابقًا.
أعتقدُ أنَّه يجبُ التَّأكيد بشكلٍ واضحٍ على أنَّ الشُّهداءَ الجُدُدَ القِدِّيسِينَ كانُوا هم المقاومين الحقيقيِّينَ بامتيازٍ ضدَّ الحكمِ العثمانيّ. فقد قاومُوا المحتلِّينَ ليس بأعمالِ تخريبٍ كانت ستؤدِّي إلى انتقامِ الأتراكِ البربرِ وتودي بحياةِ آلافِ الأبرياء، بل قاومُوا باعترافِهم العَلَنيِّ الشُّجَاعِ ضدَّ الغزاةِ، مما أدَّى إلى أن يتوجَّهَ غضبُ المُحتلِّ إليهم لا إلى باقي النَّاسِ. يمكنُنا القولُ أيضًا أَنَّ غضبَ المحتلِّ تُجاهَ الشَّعبِ الأرثوذكسيَّ وُجِدَ في الشُّهداءِ الجُدُد القِدِّيسِينَ ضحايا تكفيريَّة له، وبذلكَ نجَا الشَّعبُ. وهذا ما حدثَ معَ البطريرك القِدِّيسِ الشَّهيدِ غريغوريوسَ الخامسِ، الَّذي استطاعَ باستشهادِه تهدئةَ الغَضَبِ الوحشيِّ للأتراكِ الغاضِبينَ، من المسؤولينَ والعامَّةِ، الَّذين استثَارهم اندلاعُ الثَّورةِ، فأنقَذَ اليُونانيِّينَ في القسطنطينيَّةِ من الإبادةِ الجماعيَّةِ الَّتي كانت مُخَطَّطًا لَها.
عندَما يسمعُ قادةُ وطنِنا نبضَ قلبِ شعبِنا، كما فعل ماكريانّيس (Makriyannis) والأب قزما (القِدِّيس قزما الإيتولي)، وعندَما يشعرون بأصالةِ الأرثوذكسيَّةِ وحقِّها وإنسانيَّتِها وشعبيَّتِها، وبرابطِها الَّذي لا ينفصمُ معَ أمَّتِنا المتألِّمةِ والمُضطَّهَدَةِ، وعندَما يتوقَّفُون عن قراءةِ تاريخِنا بعدساتٍ إلحاديَّةٍ أو عقلانيَّةٍ أو ماركسيَّةٍ، عندَها فقط سيشعرُون بالحاجةِ إلى تكريمِ الشُّهداءِ الجُدُدِ القِدِّيسين باعتبارِهم أوَّلَ مقاومي الهيلينية الحديثة وأعظمَهم، وطليعةَ المقاتلين في ثورةِ 1821، وكأنَّهم بلابلُ استقلالِنَا الوطنِيِّ.
عندَها سيشعرُ حكَّامُنا بالحاجةِ إلى تكريمِ ليس فقط المقاومة الوطنيَّة الأخيرة، بل بشكلٍ أعمقَ المقاومة الرّوحيَّة التي جسَّدَها الشُّهداءُ الجُدُدُ القِدِّيسُونَ وغيرهم من المعترفينَ الأرثوذكسِ المجهولِينَ، الَّذين نَدِينُ لهم بإيمانِنا وهويَّتِنا الهيلينيَّةِ.
سيشعرون أيضًا بالحاجة إلى أن تضعَ مدارسُنا في مناهجِها قراءاتٍ عن سِيَرِ الشُّهداءِ الجُدُدِ وتعاليم الأبِ قزما، وكذلك مذكَّرات ماكريانيس، كاملةً ومن دونِ تنقيحٍ.
ولكن، مَنْ يَملِكُ الجُرْأَةَ والرِّيِادةَ الكافيةَ مِن قادتِنا السَّياسيِّينَ ليُقدِمَ على مثل هذِهِ الإصلاحاتِ التي ستحرِّرُ تعليمَنا من السَّبْيِ البابليِّ للإلحادِ والمادِّيَّةِ، وتُعيدُه إلى جذورِنا الأصليَّةِ: التُّراث اليونانيّ الأرثوذكسيّ؟
وإلى ذلكَ الحين، فلتواصِلِ الكنيسةُ مهمَّتَها القوميَّةَ، ولْتُخْبِرْ شعبَنا بالحقيقةِ حولَ تاريخِهِ والمؤسِّسِينَ الرُّوحيِّينَ لحُرِّيَّتِهِ.
المصدر: مقتطفٌ من عظةٍ أُلقيَت في الأحدِ الثَّالث من متى عام 1986 في كنيسةِ القِدِّيس ديمتريوس في مدينة تسالونيكي.
https://www.johnsanidopoulos.com/2020/06/five-reasons-god-allowed-new-martyrs-to.html
آخر المواضيع
خمسةُ أسبابٍ سمحَ بها الله لِظُهورِ الشُّهداءِ الجُدُد خلالَ الاحتلالِ التّركيِّ
الفئة : دفاعيّات
المجمع المسكوني الرابع
الفئة : دفاعيّات
مُقتطفاتٌ من تعليمِ القِدِّيسِ أثناسيوسَ باريوسَ في الفَلسَفَةِ
الفئة : دفاعيّات
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني