القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الثالث)


 القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الثالث)

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس

ترجمة: مجد زغيب، وطوني حرب.

 

 

 

الحاضرُ هو كلُّ ما نملك.

سؤال: إنّ وقتَنا الضّيّق، هو من أهمّ مصادر القلق. فماذا يمكننا أن نفعل حيال هذا، يا أبتِ؟

الجواب:

كما تعلمون، الوقتُ دائمًا معنا؛ إنه يرافقنا دومًا، ويمرّ خارجًا عن إرادتنا، ولكنّنا نحن من نتعاطى معه بطريقةٍ خاطئة. لِماذا يسبّب لنا ضغطًا؟ إنّ الوقت غيرُ موجود. الحاضرُ هو كلُّ ما نملك. في كلّ لحظةٍ، والآن أيضًا، في هذه اللّحظة بالذّات، يمكنك العيش كما لو لم يكن هناك ماضٍ أو مستقبل. هل سبق أن جلستَ أمام ساعةٍ، وشاهدتَ دورانَها؟ حين تكون مُسَلِّمًا ذاتك لله بالكلّيّة، وتراقبها بسلامٍ وهدوءٍ، ستشعر كأنَّ عقرب الدّقائق يُتمّ دورةً واحدةً، بمدّةٍ تطولُ لأكثر من دقيقة. لكن بسبب العَجَلة، يشعر النّاس بأنّ الوقتَ يسبقهم، ويفلت منهم؛ فلا ينجزون أعمالَهم في وقتِها. لماذا يكون الشخص على عَجَلة؟ لئلّا يكون عُرضةً للانتقاد ولحُكم الآخرين.

بطبيعة الحال، نحن نعلم جيدًا أنّ الشّخص الّذي يكون على عَجَلة، بالمعنى السّلبيّ للكلمة، يتعثّر (من فضلكم، هذه الظّاهرة لا تنطبق على الأشخاص الّذين يعانون من مشاكل جسديّةٍ تُعيق حَرَكَتَهم). إنّ الاندفاع المُفرِط، يقود حرفيًّا إلى الجنون. من الجيّد أن يكون الشّخص ينبض بالحياة، ولكنّ الحقيقة هي، أنّه عندما لا يستعجل شخصٌ ما بعمله، فإنّه ينجزه بشكلٍ أفضل.

ذات مرّةٍ، سألني بعضُ طلّاب الجامعات، في تسالونيكي، كيف يمكنهم إيجاد وقتٍ للصّلاة في أوقات امتحاناتهم؛ لأنّ برنامجهم اليوميّ يكون مليئًا بأوقات الدّراسة. أخبرتُهم إنّهم ليسوا بحاجةٍ إلى إيجاد الوقت، لكن لملء وقت فراغهم فقط. من أجل التّأكّد من فَهمِهِم لي، أخبرتُهم عن الذّرّة في الفيزياء الجزيئيّة. يُخبِر العلم، إنّ الذّرّة لها نواةٌ تحيط بها الإلكترونات. يعرف العلماءُ هذا كلّه، مع أنّه غير ظاهرٍ للعين المجرَّدة. هناك أيضًا مساحةٌ فارغةٌ، بين النّواة والإلكترونات، الّتي كما قلنا، لا يمكن لأيّ أداةٍ أن تراها. وهذا مشابه لعلم الفلك: كالشّمس المُحاطةِ بالكواكب.

هذه الأجرام الفلكيّة، الّتي تشغل مساحةً كبيرًا من الفضاء، مع اتّساعها، ومع المساحة الفارغة غير المحدودة، تشكّل نظامَنا الشّمسي. هذه هي الحال، بالنّسبة للشّكل الّذي تأخذه الذّرّة. على الرّغم من هذا، إذا حاولتَ رؤية هذه المساحة الفارغة، فلن تستطيعَ أبدًا. الذّرّةُ نفسُها غيرُ مرئيّةٍ، فكيف يمكن رؤية المساحة الفارغة؟ مع ذلك، استطاع العلماءُ اكتشافَها بوساطة العلوم. فكما أنّ الذّرّة بصغرِ حجمها، تحتوي على مساحةٍ فارغةٍ، كذلك يكون الوقت.

الآن، يمكنكم فهم الفراغ الموجود في وقتنا. لذا، أخبرت هؤلاء الطّلاب: «بينما تدرس، ربّما تظنّ: هل سأستطيع القيام بهذا أم لا؟ ماذا سيقول لي مُدَرِّسي؟ هل سأتمكّن من الإجابة عن الأسئلة؟ وإذا فشلتُ، ماذا سأقول لوالديّ؟» أنتَ غارقٌ في القلق. أنتَ تدرس ظاهريًّا، لكن هذه الأفكار تهاجمك في الدّاخل. ومع ذلك، فإن درستَ من دون قلقٍ، بثقةٍ أكبرَ في الله، من دون أن تدعَ هذه الأفكار كلّها تهاجم نفسك، وتستنفد طاقاتِك، سيبقى لكَ ما يكفي من الوقت. هذا هو الوقت الّذي ستستخدمه لرفع رأسك قليلاً، لتأخذ نفسًا عميقًا وتقول: «يا ربُّ، أيّها المسيح، ارحمني». إذن، أنتَ تقول هذا في قلبك، مرتاحًا تمامًا، مع قدرٍ كبيرٍ من الثّقة بالله، وهذا يعادل أربع وعشرين ساعةً من الصّلاة المتواصلة.

لدينا الكثير من الوقت الفارغ، الّذي يمكننا ملؤه بالصّلاة، من لحظة استيقاظنا حتّى لحظة خُلودِنا إلى النّوم. عندما يضع النّاس ثقتهم بالله، ليكونوا مرتاحين، في شركةٍ معه، يبدأون بالعيش بطريقةٍ خاليةٍ من الهموم، فتصبح حياتهم ممتعة. ليس لأنّهم لا يتأثّرون بالأشياء الّتي تحدث، بل لأنّهم يختبرون الأشياء من دون أن يتزعزعوا. لهذا، عندما يقومون بِعَمَلِهم، يكون اللهُ حاضرًا. إذن، الصّلاة موجودة. إذا لم يُنهوا أعمالهم في الوقت، فلن ينزعجوا من ذلك، وسيتركوها كما هي، غير مكتملة. يسمحون لنفسهم، إمّا بإكمالِها في اليوم التّالي، وإمّا بتَركِها من دون إتمام. إنّهم لا يهتمّون فيما بعد، بما قد يظنّه النّاسُ عنهم.

النّقطةُ الأكثرُ أهمّيّة، هي أنّنا إذا فكّرنا في الأمور بهذه الطّريقة، فلن نتعرّض لضغوطٍ كثيرةٍ، بسبب الوقت، وسننهي عملَنا كلَّه، ونُوَفّر الوقت. لكن، إن فكّرنا عكسَ ذلك، فلن نُنهي عَمَلَنا. نعلم جميعًا، أنّه يمكن لأيّ شخصٍ أن ينجز الكثير من الأعمال، عندما يكون قلبُه، وعقلُه في سلامٍ، وترتيبٍ، وتركيز. عندما نحبّ شيئًا ما، ما الّذي يمنعُنا من القيام به؟ عندما نريدُ تحقيقَ شيءٍ ما، من يستطيع أن يعترضَ طريقَنا؟ لن يكونَ هناك موقفٌ نقول فيه: «ليس لديّ الوقت». وبما أنّني أرغب شيئًا ما، حتّى لو كان النّاس قد اعترضوا طريقي، أو أزعجوني، فلن يعيقَني شيءٌ؛ إنّما سوف أنجح.

 

المفتاحُ السّرّيّ هو حبُّ الله.

السّرّ هو في أن نتّجه نحو الله، ونحبّه، ونطلب معونتَه. كلّ هذا يبدأ بالإيمان به. أرجوكم ألّا تسألوني الأسئلة القديمة نفسَها: «أين الله»؟ أو أسئلةً يسألها العالمُ اليوم، مُنطَلِقًا من منطقه البشريّ: «من سبق له ورأى الله»؟ أترَون، يا إخوتي، أين أصبحنا؟ نعتقد بأنّنا نستطيع تفسيرَ الأمور، وتحليلَها، بطريقةٍ صحيحةٍ، وتنظيمَ حياتِنا عبر منطقنا البشريّ فقط. لكن باعتقادنا هذا، نجعل حياتَنا قصّةً خرافيّةً من الخيال.

إلامَ يؤدّي هذا؟ سأشرح لكم، بالمَثَل الآتي: يأكل شخصٌ ما قطعةً لذيذةً من اللّحم المشويّ. يأكلها بشهيّةٍ، إلى أن تبقى العظام فقط، فيبدأَ بِلَعْقِها. لكن، هل طعمُ العظام تلك، كطعمِ قطعة اللّحم الّتي كانت تغطّيها؟ أضحت الحياةُ اليومَ، كقطعة لحمٍ، ينهشها الإنسان إلى أن يشبعَ منها، فتنفَد، ثمَّ تصبح بالنّسبة إليه عظامًا لا تلبّي رغباتِه؛ تصبح حياةً جافّةً، لا تصلح تسميَتُها حياة. تجدون اليوم مراهقين، في الخامسةَ عشرةَ، يقولون إنّهم لا يرَون أيَّ معنىً للحياة. لماذا؟ لأنّهم يعتقدون بأنّ الله صنعنا لنحبّ الحياة. هذا التّفكير، قد يؤدّي إلى الانتحار. هؤلاء يملَئُون فراغهم بالتّردُّد إلى المقاهي، والحانات، والنّوادي اللّيليّة، ولكنّ الحياة لا تتغذّى على هذا. هم بذلك، يحاولون البقاءَ على قَيد الحياة، بالهرب من حياةٍ لا يتحمّلونها. لماذا؟ لأنّهم نهشوها كلَّها، وأصبحت كالعظام.

مع مرور الوقت، يتّضح لنا أنّ الحياة تسير على هذا النّحو. لهذا، يجد الإنسان نفسَه وحيدًا، مع القلق، وفارغًا من السّلام.

20 حزيران 1985

أثينا.

 

متى يشعر الشّخص الّذي يجاهد روحيًّا بمعاناةٍ نفسيّة؟

للإجابة عن هذا السّؤال، أودّ أن أوضح منذ البداية، إنّ موضوع الصّراع الدّاخليّ غالبًا ما يُساء فهمُه. هذا لأنّه يحدث في النّفس، داخل كيان الإنسان. إضافةً إلى أنَّ الشرّ، لا ينبع من المكان نفسِه الّذي ينبع منه الخير. الصّراع الدّاخليّ يحملُ أبعادًا ومعانيَ كثيرةً، لكن كيف نفهمُه نحن؟ يمكن فهمُه أنّه تناقضٌ، ولكنّه يمكن أن يشير أيضًا إلى وضعٍ غير صحيّ.

يجب على المرء، أن يمنع هذا الصّراعَ من السّيطرة عليه، الصّراعَ بين الخير والشّر، أو بين ما يجب أن يحصل وما لا يجب أن يحصل. إذا كان الشّخص يجاهد من أجل فعل الصّواب، فحتّى لو حلّت فيه شرورُ العالم كلُّها، فلا ينبغي له، بأيّ حالٍ من الأحوال، أن يضطربَ بسببها، أو أن يعانيَ من التّوتر والقلق.

بالنّسبة إلى الشّخص الّذي يقاوم الشّرّ باستمرارٍ، من المستحيل تمامًا أن يقدر هذا الأخير، منذ البداية وفي أيّ وقت، مهما كان شرسًا، على أن يؤثّر في الشّخص لدرجة أن يجعله يعاني من القلق والعصبيّة. ليس صحيحًا، أنّ أولئك الّذين يجاهدون لفعل الحقّ والصّواب، ويصارعون الشّر، يعانون من القلق والعصبيّة. يعاني الشّخص من هذه الاضطرابات؛ لأنّه لا يجاهد كما يجب، بشكلٍ صحيحٍ وسليمٍ. لذلك، سيعاني هذا الشّخص بالتّأكيد من العصبيّة، الّتي تتجلّى بشتّى أشكالها المرضيَّة، كالقلق وغيره.

متى يكون الشّخصُ بعيدًا من العصبيّة؟ عندما يحبّ، ويرغب حقًّا في ما هو جيّد. كما قلتُ سابقًا، حتّى لو استفاق عليك الشّر، الّذي في داخلك؛ حتّى لو ثار عليك كلّ الشّر من حولك، مصوَّبًا نحوَك من قِبَل الشيطان نفسه، لا ينبغي لك أن تكون قلقًا ولا عصبيًّا. خاصةً إذا كنتَ تحبّ حقًا ما تسعى إليه. بمعنىً آخر، إذا كنتَ تريد الله حقًّا.

لنفترضِ الآن، أنّك تجاهد لتكون مسيحيًّا صالحًا. بطبيعة الحال، بما أنّه لديك علاقاتٌ مع الآخرين، فإنّك تسعى لتعطيَ انطباعًا لهم، بأنّك مسيحيٌّ حقيقيٌّ وصالحٌ. لكن، في داخلك، أنت تقبل، وتغازل الشّرَّ سرّيًّا. وهذا، بالتّأكيد، سيؤدّي إلى معاناتك، لأنّه على الرّغم من أنّك تسعى للخير، من ناحيةٍ، إلّا أنّك تخون نفسك من ناحيةٍ أخرى. لهذا السّبب تسقط، حتّى من دون أن تدرك. ليس لأنّك تجاهد، كإنسانٍ ضعيفٍ، للوقوف على قدمَيك، إنّما لأنّك تخون نفسك، وتسلّمها للشّرّ. الآن، تبدأ بالشّعور بالذّنب، وستفشل في السّيطرة عليه؛ لأنّك، ببساطةٍ، تُخفي سقوطك، حتّى عن نفسك. أنت لا تخفي سقوطك عن الآخرين فقط؛ بل عن نفسك أيضًا، وتسلّم نفسك بالكليّة إلى الشّرير.

في هذه المرحلة، تسقط في أعماق اللّاوعي. وبمجرّد أن تشعر بِتُخمةٍ من شعور الذّنب هذا، تظهر عليك علامات القلق والعصبيّة. لكن، إذا جاهدتَ كما يجب، مخلِصًا لله، وحاذيتَ نفسك مع الخير، فلن تعاني من أيّ شيءٍ من هذا القبيل. سأشرح هذه الحقائق بمزيد من العمق؛ لأنّني أعلم أنّ ما قلته حتّى الآن ليس كافياً.

 

لكلّ شخصٍ حالةٌ نفسيّةٌ-جسديّةٌ خاصّة.

برأيي المتواضع – ربّما أكون مخطِئَا – إنّ أولئك الّذين يعانون من المشاكل الّتي طرحناها، إنّما يعانون منها؛ لأنّهم لديهم استعدادٌ لذلك. إنّهم يخونون نفسهم سرًّا، ويُخفون سقوطَهم عنها، فيقمعون شعورَهم بالذّنب. لكلّ شخصٍ حالةٌ نفسيّةٌ-جسديّةٌ خاصّةٌ، ينفرد بها عن غيره.

كلُّنا بشرٌ، نعيش في جسدٍ تحت الشّمس نفسِها، ونأكلُ الطّعام نفسَه. ومع ذلك، نجدُ أشخاصًا ضعيفينَ، عُرضةً للإصابة بأمراضٍ جسديّةٍ جمّة (كأمراض القلب، والسّلّ...)، وآخرين مُصابينَ بأمراضٍ روحيّةٍ (نفسيّة، كالعصبيّة، والاضطراب العقليّ). لا بدّ من أنّكم تسألون، ما ذنبُ من لديهم مثل هذه الحالة الجسديّة-النّفسيّة (psychosomatic)، أو هل يقع اللّوم عليهم بسبب أمراضِهم. اسمحوا لي، بأن أقول لكم إنّ سببَ وجود الأمراض الجسديّة والنّفسيّة، والخطيئة، والفساد، إنّما هو سقوط الجنس البشريّ.

على الرّغم من السّقوط، ومن أنّنا نعيش فيه، وفي الخطيئة – الّتي لها عواقب لا حصر لها- إلّا أنّنا أنفسَنا لا نتحمّل ذنب السّقوط بالكامل. يولد بعض الأطفال بتأخّرٍ فكريٍّ أو إدراكيٍّ، أو بتشوّهاتٍ جسديّةٍ وحسّيّة. نأتي إلى العالَم، منفرِدين بنظامِنا الجسديّ-النّفسيّ، لا حولَ لنا ولا قوّة للتّدخّل بتركيبتِنا. تختلف تركيبةُ الشّخصيّة من طفلٍ إلى آخر: فنجد طفلًا شجاعًا بالفطرة، وآخرَ ضعيفًا، على الرّغم من عَيشِهما في المُحيط العائليّ نفسِه، ضمن ظروف الحياةِ اليوميّة نفسِها، مع أهلهما وإخوتهما. كلُّ شخصيّةٍ لديها إطارٌ خاصٌّ بها، يحدّد طريقة تعامُلِها، وتكيّفِها مع الأجواء المحيطةِ بها.

 

السّعْيُ وراءَ المُتعةِ الخاطِئة من أجل إثبات الذَات.

من المفترض، أنّه يوجد لدى الطّفل استعدادٌ للعصبيّة؛ ذلك لا يعني أنّه عصبيٌّ، أو أنّه سيعاني حتمًا من العصبيّة. لكن، مع نموّ هذا الطّفل، هل هناك مَن يفهم ما الّذي يمرُّ به، ويعترضُ طريقَه، وأين تكمنُ نقاطُ ضعفِه؟ هل هناك أيضًا مَن يحذّره من الخطأ، ويعتني به، ويوجّهه؟

نحن نعلم جيّدًا، أنّه مع نموّ هذا الطّفل، الّذي لديه مثل هذا الاستعداد، يبدأ بالشّعور، شيئًا فشيئًا، بأنّه أقلُّ شأنًا من نُظَرائه. يرى نفسه، مُحاطًا بالخوف والضّعف، مقارنةً بالآخرين، الّذين يتمتّعون بالشّجاعة والحماس. من هنا، أودّ أن أطلبَ راجِيًا، أن تعتبرَ بهذا، عندما تبدأ بتكوين أسرتك. إنّه لأمرٌ عظيمٌ، أن تُحضِر أطفالَك إلى أبٍ روحيٍّ، منذ نعومة أظْافرهم. هناك احتمالٌ كبيرٌ، بأنّ الطّفل سوف يحبّ ويرغب في التّحدث معه. لن يتحدّثوا عن الخطايا طبعًا، فما الخطايا الّتي قد يرتكبها الأطفال الصّغار، على أيّ حالٍ؟ لكن، يمكنهم التّحدّث عن المشاكل الّتي ذكرتُها سابقًا. والأب الرّوحيّ- إذا كان لديه بعض الاطّلاع على مثل هذه المشاكل- سيكون قادرًا على تقديم المساعدة. يصعب على الوالدَين فهمُ، ومساعدةُ هذا الطّفل. عندما يكبر الطّفل في منزله، وفي جواره، ثمّ يذهب إلى المدرسة، يتعرّض لبعض المشاكل، فيعاني لاحقًا من العصبيّة. من المسؤول هنا؟ هل هو الصّراع بين الخير والشّرّ، أو الصّراع بين الأنا الظّاهرة واللّا وعي؟ بالطّبع لا.

قد ينضمّ هذا الطّفل إلى منظّمةٍ مسيحيّةٍ، وهي مجموعة من الأطفال الّذين يسعَون جاهدين، ليعيشوا حياةً روحيّةً مُرضيةً لله. يحاول الأطفالُ الآخرون، بما لديهم من قدراتٍ، أن يعيشوا حياتَهم، ويُديروها بأفضل طريقةٍ ممكنةٍ. بالمقابل، يبذل ذلك الطّفل كلَّ مجهوده الخاصّ، لكن، بسبب عيوبٍ معيّنةٍ في شخصيّته -مع أنّها ليست السّببَ الرّئيس- يبدأ بخيانة نفسه عن غير قصدٍ، وبفعل أمورٍ أخرى سِرًّا. إنّ ما يدفعُه للقيام بذلك، إنّما هو الضّعف الكامِن في داخله. ماذا يعني هذا؟ كما أقول كثيرًا، في هذه المواعظ، يريد كلُّ طفلٍ إثباتَ وجوده. لقد خُلِقنا للوجود، ولا يمكننا ببساطةٍ أن نُمحى. حتّى الشّخص الّذي يتصارع مع فكرة الإقدام على الانتحار، لديه هذه الرّغبة؛ لذلك، يقعُ النّاسُ جميعًا في الضّلال. حتّى في جهادِهم، يُحِسّون بأنّهم غيرُ قادرين على التّماسك، ويشعرون كما لو أنّهم ضلّوا الطّريق. يخلق لهم هذا الصّراع، حالةً غير سارّةٍ، من الحزن والاكتئاب، فيبدءون في الجري وراءَ ملذّات الحياة. تمامًا، كما هي الحال، عندما يشعر شخصٌ ما بالعطش حقًّا، فيشرب أيَّ مياهٍ يجدها؛ كذلك الطّفل موضوعُ حديثنا، يبحث عن المتعة الّتي يمكن الوصول إليها بسهولة. والخطيئة، كما نعلم، مرتبطةٌ بها دائمًا، ولا تظهر من دون متعة. حتّى عندما تصبح جامحًا، وغاضبًا، ويائسًا، فأنتَ تُسعَد بإرضاء الأنا؛ فتُخطئ، بالرّغم من أنّك لا تريد ذلك. لكن من يشاركُهُ صراعَه؟ سيغرقُ في المزيد من الحزن، والاكتئاب، والقلق؛ يُشغل عقلَه بما سوف يحلّ به، ويستهلكه الخوف والضّعف. كيف يمكن للآخرين، أن يفهموا ما يمرّ به؟ يكبت الطّفل هذه التّجاربَ الحياتيّة كلَّها، فتتجمّع في اللّا وعي.

 

قَمْعُ الإحساس بالذّنْب.

لماذا يقمع الطّفلُ تجاربَ الذّنب هذه؟ لأنّه تربّى على أخلاقٍ حميدة. الصّراع الدّاخليّ، يبدأ معه حين لا تتوافق أخلاقُه وقِيَمه، مع أخلاق محيطه وقِيمِه؛ فهو دائمًا ما يسعى للابتعاد من الخطيئة، ومن الشّعور بالذّنب. إليكم مثلٌ آخر: كانت فتاةٌ تعيش في الرّيف، وبعدَها انتقلت إلى المدينة؛ لتعيشَ حياةً أكثرَ تَمَدُّنًا. ولأنّها لم تكن تعلم كيف تجري الأمور في المدينة؛ كانت تشعر بالإحراج من وضع القمامة في الخارج، فكانت ترميها في قبوٍ سفليٍّ، له بابٌ أفقيٌّ، في أرضيّة المنزل. هناك، كانت ترمي الفَضَلاتِ الّتي، مع الوقت، تحلّلت وانبعثت منها رائحةٌ كريهةٌ، لا تُخفى عن أحد.

الإنسان لا يطيق الشّعور بالذّنب في وعيِه، لذا يرمي تلك المشاعر في اللّا وعي، ويحبسها هناك، إلى أن تتراكم بسرعةٍ، وتصبحَ مصدر اِزعاجٍ، فتنفجرَ بطريقةٍ مَرَضيّةٍ، كاشفةً عن نفسِها للعلن. يُضحي الإنسانُ وقتَها، مريضًا في عيون النّاس. الحقيقةُ، إنّه لم يكن أصلًا بصحّةٍ جيّدةٍ، لكن ببساطةٍ كان يدفن مشاعرَه كلَّها، في قبوِ اللّا وعي.

كيف يستطيع الإنسانُ، تخطّي هذه المعاناة من دون أن يسقطَ في الخطيئةِ بسهولة؟ ليس الوقوعُ في الخطيئةِ، هو لبَّ القضيّة؛ فالشّرّ لا يولد جرّاء ارتكاب الخطيئة وحسبُ، بل من مواجهتنا الأمورَ بطريقةٍ سيّئة. الإنسان الحسنُ الأخلاق، يودّ أن يراهُ النّاسُ مميّزًا، فيقمَع شعورَ الذّنب ذلك. بنبغي لهُ أن يتواضع، ويردّد مع بولس الرّسول: «بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ؛ لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ» (كورنثوس الأولى 27:1). فليَملَإِ الإنسانُ فكرَه تَواضعًا، على عكس المرأة القرويّة.

كما تعلمون، إنَ التَواضع يقطن في أسفل ذهنِنا، ولا يُخفي أيّ شيءٍ تحتَه، بل يكشفُ مَكنوناتِنا كلَّها للعلن. على الإنسان، أن يتذكّر تواضعَ اللّصّ على الصّليب، ويقول معه:«اُذكرْني، يا ربّ، متى أتيتَ في ملكوتِك». لقد فطِنَ اللّصُّ شيئًا، لم يكن الرّسلُ قد فهموه بعد: لقد علِمَ أنّ المصلوبَ بجانِبه، إنّما هو اللهُ نفسُه. تمامًا، كما حصل مع زكّا العشّار. 

 



آخر المواضيع

تربية الأطفال على الصّدق
الفئة : الشّباب والعائلة

القدّيس الشّهيد الجديد فلاديمير ميتروبوليت كييف 2023-12-27

 القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الرابع والأخير)
الفئة : الشّباب والعائلة

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس 2023-09-30

القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الثالث)
الفئة : الشّباب والعائلة

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس 2023-09-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا