تربية الأطفال على الصّدق


تربية الأطفال على الصّدق

القدّيس الشّهيد الجديد فلاديمير ميتروبوليت كييف

نقلته إلى العربية: جوي موسى

 

«الكَذِبُ وَصمِةُ عارٍ في الإنْسان وهو لا يَزالُ في أفواهِ فاقِدي الأَدَب.» (يشوع بن سيراخ 20:24)

«حالُ الإنْسانِ الكَذوبِ العار وخِزيُه معَه على الدَّوام.» (يشوع بن سيراخ 20:26)

 

لِلصّدق مكانةٌ مُهمَّةٌ وجوهريَّةٌ في الفضائلِ الّتي يجب أن تُزرَع بإصرارٍ في قلوبِ الأطفال. نعني ب«الصّدق» محبَّة الحقّ والإعراض عن الكذب.

يجب أن تكون هذه الفضيلة في المرتبةِ الثَّانيةِ عند الأطفال بعدَ الطّاعة. إن كانَ الكذبُ أصلَ كلّ الرَّذائِل، فالحقُّ هو بداية وأساس كلّ الفضائِل. لذلك يجب أن ينصبَّ اهتمامُ الأهل على زرعِ الصّدق في أبنائِهم وتَنمِيَتِه. كيف يتمّ هذا؟

إنَّ الشّعور بالحقيقة والرَّغبة في الوصولِ إليها أمرٌ فطريّ لدى كلّ إنسان، وبالتالي لكلّ طفل. صحيحٌ أنَّ هذا الشّعور ضَعُفَ بسببِ الخطيئة ولكنَّه لم ينطفئ كلِّيًّا. يظهر هذا السَّعي وراءَ الحقيقةِ جَلِيًّا في فضولِ الطِّفل. فالطّفل يسأل عن كلّ شيء، ويَقبل كلَّ ما يقولُه له الكِبار كحقيقة مُطلَقة، إلى حينِ انخداعِه بفكرةٍ ما. إنَّ الطّفل البريء غير الفاسِد، لا يعرف الكذب أو الرِّياء؛ على العكس، فهو لا يَحمرُّ خَجلًا عندما يَكذِب بسبب تهاونِه فحسب، بل حتّى عندَ سَماعِه كذبة من شِفاهِ شخصٍ آخر. يزرع اللهُ نفسُه الإحساسَ بالحقّ في قلوبِ الأطفال، ولا يَبقى على الإنسان سِوى واجب المحافظة على هذا الصَّوت الطَّبيعي، لِتَغذِيَتِه وتَقوِيَتِه. وهذه غالبًا مَهَمَّةُ الأهلِ، كيف يمكنهم القيام بهذا؟ عليهِم أوَّلًا أن يزرعوا فيهم منذ الطّفولةِ حُبًّا عميقًا ووَرِعًا للحقيقة، وثانيًا أن يُرَبّوهم على مَقتِ الكذب بشِدَّة والإعراض عنه.

  1. المَهَمَّة الأولى هي أن يُعَلِّم الأهل أبناءَهم مَحبَّة الله على أساس دينيّ، أي نتيجة مَحبَّتهِم لله وخضوعِهم له. على الأطفال أن يُحِبّوا الحقَّ، لأنَّ الله (الّذي هو الحقيقة غير المتغيّرة)، يكره الكذب ويُريدُنا أن نقولَ الحقَّ. إنَّ مَحبَّةَ الحقّ القائمة على الإيمانِ بالله والإجلال العميق له، وَحدَها الّتي ستصمد أمامَ كلّ الاختبارات.

  2. تَتطلَّب المَهَمَّة الثّانية أن يتعاملَ الأهل مع أطفالِهم بصدقٍ، مُظهِرين ثِقةً كامِلةً بهم. صَدِّقوا كلَّ كلمةٍ مِنهم، إلى أن تُلاحِظوا أنَّهم يكذبون. لا تطلبوا مِنهم بُرهانًا، أو قَسَمًا، أو حلفانًا بما يقولون، اكتفوا بقولِ الإنجيل: «ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا.» أمّا إذا كان لديكم سببٌ قويٌّ للشَّكِّ بكلماتِهم، فلا تَدَعوهم يدركون أنَّكم لا تُصَدِّقونَهم عندَ أوَّلِ ظرف. حاوِلوا أن تَتَأكَّدوا تمامًا مِن أنَّهم يكذبون. عندما تَتَأكَّدون مِن أنَّهم لم يقولوا الحقيقة، استدعوهم، وانظروا في أَعينِهم، وقولوا بجدّيَّةٍ وصرامةٍ، لكن بمَحبَّة: «اللهُ نَهى عن الكذب. إنَّه في كلِّ مكانٍ، ولا يعرف كلَّ أعمالنا فحسب، بل كلَّ أسرارنا وأفكارنا أيضًا. كما أنَّ الشِّفاه الغاشَّة قبيحةٌ في عينيّ الرّبّ.» وسيدفعهم الخجل الظّاهر على وجوهِهم إلى الاعتراف بالكذب، وسيكون ذلكَ بمثابةِ درسٍ للمستقبل.

  3. على الأهل أن يَهتَمّوا أيضًا بإبراز مَحبَّتِهم وإخلاصِهم للحقّ لأولادِهم، مِن خلال مِثالِهم الخاصّ. كونوا صادِقين في كلِّ أعمالِكم وأقوالِكم من دونِ رياء. قبلَ كلّ شيء، كونوا مُسارّين للحقائِق الإلهيَّة الّتي للدّين والإيمان. ابتَعِدوا عن اللّامبالاة في الإيمان، واحذروا بخاصّة أن لا تُظهِروا بالقُدوة أنَّ حياتَكم الخاصّة لا تَمُتّ للإيمان بِصِلة. إذا سَمحتم لأنفسِكم بالتّعبير عن هذه الأفكار أمامَ أطفالِكم، فإنَّكم لا تُقصون مَحبَّة الدّين والتّقوى من قلوبِهم فحسب، بل تقتلون أيضًا كلَّ إحساس بالحقّ فيهم. إن كانَ اللهُ حقًّا لا يهتمّ ما إذا كنّا نمتلك فَهمًا صحيحًا أو خاطِئًا عن جَوهَرِه، أو ما إذا كنّا نعترف بالإيمان الحقيقيّ أو بإيمان خاطِئ، فلماذا إذًا نهتمّ بالحقّ في حياتِنا اليوميّة؟ وإذا كانَ ذاك الّذي يَنشَغِل بِمَحْضِ اختيارِه، بالدِّيانات الباطِلة، ويرفض كَشفَ الإله الكامِل، يُرضي الله تمامًا كذاك الّذي يعترف بالإيمان الحقيقيّ، فلماذا إذًا يملك الحقُّ أهمّيّةً عَظيمةً كهذه؟ أخيرًا، إذا كانَ أولئك الّذين يُنكِرون وجودَ دينٍ مُوحى به من الله، على حقّ، وإذا كانَ الإله الحقيقيّ يرى أنَّ كشف الحقيقة لنا في بَحثِنا في أهمّ مسائِل الحياة، أمر لا يستحقّ العَناء، فكيفَ للمَرءِ أن يطلب مِن شخصٍ ما (بخاصّة من الطفل)، أن يقول الحقيقة في الأمور الثّانويّة؟ لذلكَ، أيّها الأهل المسيحيّون، لكي يحبَّ أطفالُكم الحقَّ، عليكم قبلَ كلّ شيء، حَملهم على مَحبَّة واحترام الحقّ الإلهيّ. ابتَعِدوا وأولادكم عن اللّامبالاة في الأمور الدّينيّة. إذا لاحظَ أبناؤكم أنّكم تتعامَلون باستهتارٍ مع الحقائِق الدّينيّة، وأنّكم لا تصدّقون كلمة الله، فهل تتوقّعون مِنهم أن يتعامَلوا مع الحقّ بطريقةٍ مختلفة؟ أظهِروا أنتُم إذًا حبًّا للحقائِق الإلهيّة، ونَمّوه في قلوبِ أطفالكم.

 

كونوا صادِقين وعادِلين في جميع جوانِب حياتِكم الأخرى. اهربوا مِن كلّ كذبٍ، ومَكرٍ، ورِياءٍ، في تَعامُلِكم مع الآخرين. إذا رأى أطفالُكم أنّكم تُعامِلون الآخرين بِغِشٍّ، وتلجأون إلى المَكر ونَصبِ الفِخاخ، وأنّكم مراؤون وخائِنون؛ إذا رأوا أنّكم تَتَصَنّعون أمامَ الأصدقاء، في حين أنّكم تبغضونَهم في أنفسِكم، وتضحكون مِن وراء ظهرِهم، فلن يكون أطفالُكم أفضل مِنكم لاحقًا. على العكس، إذا أظهرتم، في كلّ جوانِب حياتِكم، أنّكم تَبتَعِدون عن الباطِل والرّياء، والكذب والخيانة، فإنَّ أطفالَكم سَيَحمِلون الحقّ في قلوبِهم، ولن يكونَ في شِفاهِهم كذبٌ ولا خيانة.

ليسَ مِنَ السَّهلِ تَربِية الأطفال على مَحبَّة الحقّ وتَقديرِه، فَعلينا أن نحارِب الباطِل والكذب باستمرار. قد تُساعِدنا هذه القواعِد الأربعة في سَعيِنا:

  1. عَلِّموا أطفالَكم أن يكرهوا الكذب مِن وِجهة نظر دينيّة، بِتَحويل اهتمامِهم نحوَ الله. على أطفالِكم أن يهربوا مِن الكذب، ليسَ خوفًا مِن العِقاب، ولكن نتيجةً لِفَهمِهم أنَّ الله نهى عن الكذب، وأنَّ كلَّ كذبة هي خطيئة أمامَ الله. أوضِحوا لأطفالِكم كم يَمقُتُ اللهُ الكذبَ، من خِلال كَلِمات الكِتاب المقدّس: «الكَذِبُ وَصمِةُ عارٍ في الإنْسان…» (يشوع بن سيراخ 20:24)؛ أو «كَراهَةُ الرَّبِّ شَفَتا كَذبٍ…» (أمثال 12:22). ساعِدوهم لِيُدرِكوا أنَّ الكذبَ عملُ الشَّيطان، منذ أن خَدَعَ آدم وحوّاء لأوَّلِ مرَّةٍ في الفِردَوس، لذلك يقول المُخَلِّص نفسُه: «لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الكَذِبِ.» (يوحنا 8:44). بالتّالي، عَلِّموا أولادَكم أنَّهم عندما يكذبون، يَتَمَثَّلونَ بالشَّيطان، ويَتَشَبَّهونَ بِه.

  2. لا تَسمَحوا لأطفالِكم بالكذب، مهما كانَت الكذبة صغيرة. إن ارتكبَ الطّفلُ خطأً ما واعترفَ بِه فورًا بصَراحة، فَسامِحوه مِن دون طَرح أيّة أسئلة. إن كانَ خطأً فادِحًا، فَخَفِّفوا لهُ العِقاب، لكن أَخبِروه أنَّ السّببَ في ذلك، هو اعترافُه بِخطَئِه على الفور. مع ذلك، لا تكونوا متساهِلينَ جِدًّا، لكي لا يستغلّ طِفلُكم ذلك، إن كانَ بِطَبعِه يميلُ إلى الكذب. أمّا إذا ارتكبَ الطّفل شرًّا وأنكرَ ذلك، عليكم حينئذٍ أن تُضاعِفوا العِقاب، مُوَضِّحينَ لهُ أنَّ سبب ذلك هو الأكاذيب، ليسَ الخطأ فحسب. إذا أهانَ الطّفلُ شخصًا آخرَ بكلامِه، وشَهَّرَ بِه، بِدافِع الانتقام أو الكُره، عليه أن يعترفَ بإثمِه أمامَ كلّ من سَمِعَه، لا أن يُعطَى العِقاب المُعتاد لذلك فحسب. هذا ما يَتَطَلَّبُه قانون الأخلاقِ المَسيحيَّة.

  3. يجب ألّا يكذب الأهل أو يخدعوا أحدًا. لا تَسمحوا للكِبار أن يضحكوا على أطفالِكم، سِواء كانوا إخوة، أو أخوات، أو خادِمات، أو أصدِقاء، أو غيرهم. كثيرًا ما يخدع الأهل طِفلَهم، أو يُخيفوه، أو يَقطَعونَ لهُ وُعودًا لا يحفظونَها، لإيقافِه عن البكاء وتَهدِئَتِه. هذا التَّصرّف يُسَبِّب أذىً عَظيمًا! لأنَّ الطّفل سرعان ما يدرك أنَّه خُدِع، فيَضمَحِلّ إيمانُه بكلامِ والِدَيه وإحساسُه بالحقّ.

  4. لا تَضَعوا أنفسَكُم في مواقف يضطرّ فيها أطفالُكم إلى الكذب عن قصد أو عن غير قصد. يحدث ذلك بشكل غير مقصود، عندما يأتي أحد الوالِدَين لسببٍ ما إلى الطّفل، بحَزمٍ وغضبٍ، وأحيانًا حتّى حامِلينَ حِزامًا في يَدِهِم، قائِلينَ لهُ: «أَخبِرني مَن فعلَ ذلك!»، أو «سأضرِبُكَ بالحِزام إن فعلتَ ذلك!»…إلخ. فهَل مِنَ المستغرَب أن يكذب الطّفل بدافِع الخوف؟ وماذا عن أولئك الأهل الّذين يضحكونَ على أكاذيبِ أطفالِهم، أو يَمدَحونَهم لأنَّهم يكذبون عن عَمدٍ ومَكرٍ؟ والأسوأ مِن ذلك، ماذا يمكننا القول عن أولئك الأهل الّذين يُعَلِّمونَ أطفالَهم الكذب على مُدَرائِهم أو مُعَلِّميهم، لِيَتَنَصّلوا مِن مشكلة ما، ويفلتوا مِنَ العِقاب. هؤلاء الأهل -إن كانوا يَستحِقّونَ أن يُدعَوا أهلًا- هم الّذين يُضَلِّلون أطفالَهم. أيّ عَجَبٍ إن كانَ هؤلاء الأطفال يُشَهِّرونَ بغيرِهم ويَخدَعونَ ويَسرِقونَ، نتيجةً لتَربِيَتِهم؟ تُظهِر الخِبرة أنَّ أولئك الّذين يَستخِفّونَ بالكذب، لن يُفَكِّروا مرَّتَيْن بشأن الغشّ والسَّرِقة.
     

لقد قدّمت لكم، أيّها القرّاء المسيحيّون، مبادئ يمكن أن تساعِدكم في تَربِية الأطفال على المَحبَّة والتّقوى تجاه الحقّ، بالإضافة إلى غَرس البُغض الشَّديد والكره تجاه الكذب في نفوسِهم! عَلِّموا أطفالَكم أن يحبّوا الحقّ، أوَّلًا مِن خِلال مِثال مَحبَّتِكم لهُ، في أعمالِكم وأقوالِكم كافَّةً. عَلِّموهم كم أنَّ الكذب ممقوتٌ وقبيحٌ في عينيّ الرَّبّ. لا تَسمَحوا وَلَو لِذَرَّةٍ واحِدةٍ من الكذب أن تخرج مِن أفواهِ أبنائِكم؛ لكن لا تَضحَكوا أنتم عليهم، ولا تَسمحوا للآخرينَ بذلك. واحذروا أخيرًا، أن لا تَقودونَهم إلى الكذب، عن قصد أو عن غير قصد.

 

The Voice of the Church, No, 7-8, 1914



آخر المواضيع

تربية الأطفال على الصّدق
الفئة : الشّباب والعائلة

القدّيس الشّهيد الجديد فلاديمير ميتروبوليت كييف 2023-12-27

 القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الرابع والأخير)
الفئة : الشّباب والعائلة

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس 2023-09-30

القَلَقُ: كيف يولد، وكيف نُشفى مِنه؟ (الجزء الثالث)
الفئة : الشّباب والعائلة

الأرشمندريت سيميون كرايوبولُس 2023-09-28

النشرات الإخبارية

اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني

للإتصال بنا