القِدِّيسةُ تقلا أُولَى الشَّهيداتِ

القِدِّيسةُ تقلا أُولَى الشَّهيداتِ
المُتَقَدِّمُ في الكهنَةِ غريغوري دياشنكو
نَقَلَتْها إلى العَرَبيَّةِ: جنيفر سعد سلوم
القِدِّيسة تقلا، الَّتِي نحتفِلُ بتَذكارِها اليوم، هي أُولَى الشَّهيداتِ المسيحيَّاتِ. وَلِأَنَّهَا بَشَرَّتْ بِالإِنجيلِ أُطلِقَ عليهَا لقبُ «المُعَادِلَة لِلرُّسُلِ».
حينَ اجتازَ الرَّسُولانِ القِدِّيسَانِ بولسُ وبرنابَا مدينةَ إيقونيةَ، أقَاما عندَ رَجلٍ وَرِعٍ اسمُه أونيسيفوروس، فتوافدَ النّاسُ إلى بيتِه للاستماعِ إلى الرُّسُلِ. وكانَت بينَ الحضورِ تقلا الَّتي هي ابنةٌ لِأبَوَيْنِ نبيلَيْنِ ثريَّيْنِ، ومخطوبةٌ لشابٍّ، ولكنْ عندَما سَمِعتْ تعاليمَ الرَّسُولِ بولسَ، آمَنَتْ بالمسيحِ مُخَلِّصًا وَنَذَرَتْ لَهُ عُذْرِيَّتَها، وكابَدَتِ الآلامَ مِنْ أَجلِ المسيحِ إلى أَنِ استَقَرَّتْ على جبلٍ حَيْثُ أَكثرُ الأَماكِنِ عُزْلَةً، وأَضْحَتْ، فيما بعْدُ، قبْلَةً للجميعِ يَقصِدُونها طلبًا للتّعليمِ. فانشغلَت بالكِرازة، وشفاءِ المرضَى، وهدايةِ الوثنيِّينَ. وهكذا، أمضَتْ القِدِّيسةُ تَقلا، الَّتِي تميَّزَتْ بعفَّتِها في حياتِها، سنواتٍ طويلةً في الصّلاةِ والأعمالِ الصَّالحةِ، حتَّى رَقَدَتْ وهي في التّسعِينَ من عُمرِهَا.
إِنَّ جميعَ المسيحِيِّيْنَ مَدْعُوُّونَ إلى الاقتداءِ بِبَتُولِيَّةِ تقلا وَعِفَّتِها. فَإِنْ لم نستطِعْ أن نقتديَ ببتوليّتِها، الَّتِي يعجَزُ عنهَا الكثيرُونَ، وهيَ ليسَت إلزاميّةً،بالضَّرورَةِ، فلنحتذِ، في المُقابِلِ، بعفَّتِها الَّتِي زيَّنت بها نفسَها حتى نهايةِ حياتِها، والعِفَّةُ إلزاميَّةٌ للجميعِ: للعذارَى والمتزوِّجين المُكرَّمِينَ أيضًا.
بالطَّبعِ، ليس كلُّ النَّاسِ قادرِينَ على أن يكونُوا مُتَبَتِّلينَ بالكاملِ، فالبتوليّةُ ليسَت إلزاميّةً؛ ولكن على الجميعِ أن يحافظُوا على العفّةِ بأَيَّةِ وَسِيْلَةٍ، بِمعنى:" أن يعيشُوا في ظلِّ "الكمالِ"، بنفسٍ سليمةٍ، وفكرٍ نقيٍّ، وَمنْ دون أن يسمحُوا لأنفسِهم بأيِّ لَذَّةٍ تَتَعَارَضُ مَعَ العقلِ السّليمِ. فالذِّهْنُ يَجِبُ أَنْ يَبقى طاهِرًا من الأفكارِ النّجسَةِ، والقَلبُ نَقِيًّا منَ الشَّهَواتِ الفاسدَةِ، والجسدُ نقيًّا من الأعمالِ الدَّنِسَةِ" (القِدِّيس فيلاريت ميتروبوليت موسكو).
وقبلَ كلِّ شَيْءٍ، يجبُ أن نتذكّرَ أنَّ كلَّ مسيحيٍّ مدعُوٌّ إِلى اتِّحادٍ حَيٍّ وثابِتٍ معَ المسيحِ المخلِّصِ. فقد قالَ: «مَنْ يَأكُلْ جَسَدِي ويشرَبْ دمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأنَا فِيهِ» (يوحنا 56:6). ولكيْ يتّحِدَ الرّبُّ بِنَا، وَجَبَ أَنْ نتَطهَّرَ ، ونُنَقِّيَ نَفْسَنا وجَسَدَنا. ومن دونِ هذِه النّقاوةِ، حتّى لو اقتَربْنا منَ الرّبِّ مِرارًا من خلالِ سرِّ الإفخارستيّا، فلن يَثبُتَ في قلوبِنا، ولن يَضُمَّنا، نحنُ الغصنَ اليابسَ العقيمَ، إليهِ لنحيَا ، ولن يدفئَ طبيعتَنا وينيرَها، بل سيحرقُها ويُلهبُها، لأنَّهُ «نارٌ تُحرِقُ غيرَ المُستَحِقّينَ».
ثانيًا، يجبُ أن نتذكّرَ تلك الوصايا الحازمةَ في شريعةِ اللهِ، الَّتِي تُلزمُنا بوضوحٍ ومن دونِ تردّدٍ بحفظِ طهارةِ النّفسِ والجسدِ.
أوَّلاً، يطلبُ اللهُ منّا العفّةَ كذبيحةٍ عادلَةٍ ومقبولَةٍ أمامَهُ. يقول الكتاب: «يا إِخْوَةُ، مَجِّدُوا اللهَ بِأجسادِكم و أرواحِكُمْ الَّتِي هيَ للهِ» (1 كورنثوس 20:6)، وأيضًا: «أَطلُبُ إليكُم أَيُّهَا الإخوَةُ، برأفَةِ اللهِ، أنْ تقَرِّبُوا أَجسادَكُمْ ذَبيحةً حيَّةً، مُقَدَّسَةً، مَرْضِيَّةً عندَ اللهِ» (رومية 1:12).
ثانيًا، لا تُطلَبُ مِنَّا الطّهارةُ فقط كذبيحَةٍ، بل هي واجِبٌ ضروريٌّ لا غِنًى عنه. «لأَنَّ هَذِهِ هيَ مَشِيْئَةُ اللهِ وهيَ تَقْدِيْسُكُمْ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الزِّنى، وأَنْ يَعْرِفَ كُلُّ واحِدٍ مِنْكُمْ أَنْ يَصُونَ إِنَاءَهُ في القَدَاسَةِ والكرامةِ، لا في هَوَى الشَّهْوَةِ كالأُمَمِ الَّذِيْنَ لا يَعْرِفُونَ اللهَ» (1 تسالونيكي3:4-5 ). «أَما تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ الَّذِيْ فِيْكُمْ الَّذِيْ نِلْتُمُوهُ مِنَ اللهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ؟ لِأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيْتُمْ بِثَمَنٍ»(1 كورنثوس 19:6-20). أتسمعُونَ، أيُّها الأحبّاءُ؟ أنتُم لَسْتُمْ مُلْكًا لِأَنْفُسِكُمْ بالكاملِ؛ بل قَدِ اشْتُرِيْتُمْ بِثَمَنٍ، هو دمُ المسيحِ الثَّمِينُ، الَّذي سُفِكَ على الصَّليبِ.
في سرِّ المعموديَّةِ، اشتُريْتُم، وتقدّسْتُم، وتطهَّرْتُم من دنَسِ الطّبيعةِ السّاقطَةِ. وفي سرِّ الميرون، خُتِمْتُم بخَتمِ اللهِ، كخُدّام لا يخصُّون أحدًا إلّا اللهَ. في تلكَ اللّحظةِ، اشتُرِيَتْ نفوسُكم وأجسادُكم بثَمَنٍ. وفوقَ ذلكَ، في سرِّ الإفخارستيّا، لم يَعُدْ جسدُكم مُلكًا لكُم، بل للمسيحِ نفسِه، كما قالَ الرَّسُولُ: «أجسَادُكُم هيَ أَعضاءُ المسيحِ» (1 كورنثوس 15:6).
فكيفَ تجرُؤُ بعدَ ذلكَ أن تسرقَ من مخلِّصِكَ ما هوَ لَهُ، وقد اشتَرَاه بدمِهِ، وتستخدِمُهُ كمَا تشاءُ؟ كيفَ تجرؤُ أن تنزعَ منْهُ إناءَ ـنِعمَتِهِ الثّمينَ، أيْ نفسَك، وتلوِّثُها بأفكارٍ نجسَةٍ وشهواتٍ دنسَةٍ؟ كيفَ تجرُؤ أن تأخذَ منه جسدَكَ، الَّذي يسري فيه جسدُهُ الطَّاهرُ ودَمُهُ الإلهيُّ، وتُسلِّمُهُ للفَسادِ والدّنَسِ؟ أليسَ هذا تجديفًا وإهانةً ومِنْ أخطرِ أنواعِ الإثمِ؟ «أَنْتُمْ لَسْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ؟ لِأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيْتُمْ بِثَمَنٍ!» (1 كورنثوس 19:6-20).
لهذا السّببِ، يَدِينُ الرَّسُولُ بشدّةٍ ووضوحٍ كلَّ خطيئةٍ تُفْسِدُ الطّهارةَ، على أنواعِها، من الأكثرِ فظاعةً إلى الأشدِّ مَكرًا. يقولُ: «لا تَضَلُّوا: لا الزُّناةُ ولا عَبَدَةُ الأَوثانِ ولا الفُسَّاقُ … يرثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ» (1 كورنثوس 9:6-10). بل ويُضيفُ تحذيرًا رهيبًا، بالقَولِ :«مَن يُفْسِدْ هَيْكَلَ اللهِ يُفْسِدْهُ اللهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقدَّسٌ، وهَذَا الهَيْكَلُ هُوَ أَنْتُمْ» (1 كورنثوس 17:3).
فلنتخيّلْ، أيضًا، أيُّهَا الإخوَةُ الأحبَّاءُ، الجمالَ الَّذي لا يُضاهَى والنّعمةَ الَّتِي تَتَحَلَّى بها الفضيلةُ الَّتِي نَتَحدّثُ عنْها. كلُّ الفضائلِ الإنسانيّةِ جميلةٌ: الرَّحمةُ، الودَاعَةُ، التَّواضُعُ، الكَرَمُ، الصَّبرُ؛ لكنَّ العِفَّةَ تَبْقَى أَجملَ الفضائِلِ .
فكلُّ هذِه الفضائلِ فطريَّةٌ عندَ الإنسانِ، وتَنبَعُ من الدَّوافعِ والحاجاتِ الطبيعيّةِ لبَشَرِيَّتِنا. أمّا العِفَّةُ، فهي فضيلةُ غيرِ المتجسِّدِينَ، وهي منْ صِفات الملائكةِ. فالعِفَّةُ هي الإِنسانُ الطَّاهِرُ الَّذِيْ لا عَيْبَ في بَشَرِيَّتِهِ: نَفْسًا وجسدًا، يقترِبُ من الملائكةِ، بلباسِه الجسديِّ، يسكنُ مع غير المُتَجَسِّدِينَ، ويعيشُ على الأرضِ كساكنٍ في السَّماءِ. فهلْ هناكَ ما هو أسمَى وأجملُ من هذا؟ ولهذَا السَّببِ، بالطَّبعِ، اقتنَى النُّسَّاكُ القِدِّيسُونَ هذِهِ الفضيلةَ الملائكيَّةَ بثَمَنٍ باهظٍ: ذَرَفُوا الدُّموعَ، وتَصَبَّبَ جبينُهُمْ عَرَقًا، وأَنكروا أَنْفُسَهم من خلالِ مواقِفَ يُشْهدُ لَها، مِنْ أجْلِ أَنْ يَسْتَعِيْدُوا الطّهارةَ الَّتِي فقدُوها، أو أَنْ يُحافِظُوا على الطّهارة الَّتِي لم تُفقَدْ بعدُ!
وأخيرًا، فإنَّ البراءةَ والعفّةَ عندَ الإنسانِ كنزٌ لا يُضاهَى ولا يُعوَّضُ. فَنَفْسُ الرَّجُلِ العفيفِ مشرِقَةٌ، وقوّتُهُ عذبَةٌ، وضميرُه نقيٌّ وهادئٌ، ورغباتُه معتدلَةٌ ومقدّسَةٌ، وقلبُه فَرِحٌ وهادئٌ، ولِصَلاتِهِ دالَّةٌ عندَ اللهِ، كصَلاة الابنِ المحبوبِ لأبيه؛ هو الَّذِيْ يَنجَحُ في أعمالِه، ويباركُه الرَّبُّ في كلِّ شيْءٍ. أمّا من غَرِقَ في الرَّذيلَةِ، فكلُّ ما سبقَ بَعِيْدٌ عنهُ كُلَّ البُعْدِ: ضميرُهُ يعذّبُهُ، أفكارُهُ مضطربةٌ، مشاعرُهُ مخدَّرَةٌ، رغباتُهُ مشتعِلَةٌ، قلبُهُ فارِغٌ وسقيمٌ، يشعرُ بالملَلِ، هو باردٌ في صلاتِهِ بل ويشمئِزُّ منها، يكرَهُ التّأمُّلَ وكلَّ ما هو جَدِّيٌّ أو روحِيٌّ؛ يفشَلُ في أعمالِهِ، وتَعُمّ الفوضَى جسدَه وروحَه، تُصيبُهُ أمراضٌ خطيرَةٌ ومُهلِكَةٌ، ويموتُ قبل أَوانِهِ.
ليمْنَحْنا الرَّبُّ، بنعمتِهِ وبتضرُّعاتِ القِدِّيسَةِ الشَّهيدةِ الأُولَى تَقلا وجميعِ القِدِّيسِينَ، أن نكونَ من الَّذينَ "يُقَادُونَ إلى هيكَلِ المَلِكِ"، إلى ملكوتِ السَّمَاواتِ، المُعَدِّ فقط للأطهارِ والقِدِّيسِينَ، الَّذينَ من دونِهم لَنْ يَسْتَطيعَ أَحدٌ أَنْ يُعايِنَ اللهَ.
https://www.mystagogyresourcecenter.com/2024/09/september-day-24-holy-protomartyr-thekla.html?m=0
آخر المواضيع
حماية والدة الإله في حياة الكنيسة
الفئة : مواضيع متفرقة
أيُّها القدِّيسُ والمُثلَّثُ القدَاسَةِ پورفيريوس أَعِنَّا!
الفئة : مواضيع متفرقة
القِدِّيسةُ تقلا أُولَى الشَّهيداتِ
الفئة : مواضيع متفرقة
النشرات الإخبارية
اشترك الآن للحصول على كل المواد الجديدة الى بريدك الالكتروني